الضفة الغربية و قانون الاحتلال الحربي

تمهيد

كان العرف الدولي إلى ما قبل منتصف القرن الثامن عشر يعتبر الإقليم الذي يخضع للاحتلال مملوكا لدولة الاحتلال ملكية كاملة حيث كان من الممكن لهذه الدولة أن تتصرف بهذا الإقليم بكافة أنواع التصرفات التي يتيحها حق الملكية1، إلا أنه ومنذ حروب نابليون تطور هذا العرف مبلورا مجموعة قانونية خاصة سميت بقانون الاحتلال الحربي، كجزء من قوانين الحرب وذلك لتحقيق غرضين متلازمين، الأول هو وضع حد فاصل بين الاحتلال الحربي الذي يقع وقت الحرب وبين الادعاء بملكية الإقليم من خلال إعلان ضمه من جانب واحد، أما الغرض الثاني، فهو مراعاة المستوى الحضاري الذي وصلت إليه الإنسانية بكل ما يتضمنه ذلك من معان من شأنها التخفيف من المعاناة التي تسببها الحروب2. ومن هنا فقد اهتم الفقهاء بتمييز الاحتلال الحربي عن غيره من الوقائع التي يمكن أن تختلط به وذلك لترتيب النتائج القانونية السليمة، فقد اهتموا في البداية بتمييز الاحتلال الحربي عن الانتصار الكامل أو الفتح (Complete Conquest) ثم ومنذ بداية القرن العشرين اهتم الفقهاء بالتفرقة بين الاحتلال الحربي والغزو (Invasion).

الانتصار أو الفتح: (Complete Conquest)

في نهاية القرن التاسع عشر بين أحد الفقهاء الفرق بين الاحتلال الحربي والانتصار بصورة واضحة ودقيقة فكتب يقول:

“اصطلاح الانتصار بمعناه العادي ينطبق على الإقليم المهزوم في اللحظة التي يؤخذ بها من العدو، ولكن بالمعنى الفني والضيق، فهو ينطوي فقط على الممتلكات العقارية التي اكتسب المنتصر عليها ملكية كاملة.

فحتى يحين الوقت الذي تتأكد وتكتمل فيه ملكية الممتلكات التي أخدت، فإنها تحفظ بموجب حق الاحتلال الحربي والذي هو وفقا للعرف الدولي وقوانين الحرب يختلف ويختلف كثيرا عن حق الانتصار الكامل3

فالانتصار يتضمن توافر القوة واستعمالها أو إمكانية استعمالها والقانون لا يرتب نقل الملكية أي نقل السيادة نتيجة لهذه القوة، إلا إذا كان الانتصار كاملا، والانتصار لا يكتسب هذه الصفة إلا إذا تم حسم المسألة النهائية للنزاع وهي وجود النية لتملك الإقليم وتوافر المقدرة لتحقيق ذلك، فإذا بقيت هذه المسألة غير واضحة ويظللها الشك فإن الاحتلال يبقى احتلالا حربياً ولا يتحول إلى انتصار كامل.4

أما الإجراءات التي وضعها القانون لتحقيق نتائج هذا الانتصار، فهي إما عقد معاهدة يتم فيها الضم، أو خضوع الدولة المهزومة واستسلامها استسلاما يؤدي إلى نقل السيادة عليها.5 أي أن توافر حالة الانتصار الكامل لا تؤدي بحد ذاتها إلى نقل السيادة وإنما تؤدي إلى توافر الظروف الموضوعية لهذا النقل، فإذا اتبع العرف الدولي المستقر في هذا الشأن وهو كما سبق إما عقد معاهدة ضم، أو خضوع واستسلام الدولة المهزومة تم نقل السيادة.

والى أن يتحقق الانتصار الكامل وتتحقق نتائجه، فان القانون الدولي يعترف بمرحلتين تسبقانه وهما الغزو والاحتلال6. والمرحلة التي تمتد منذ تحقيق الانتصار وتدمير قوات الدولة العدوة وأخذ الإقليم أو جزء منه، وإلى أن يتم تحقيق الانتصار بمعناه الكامل وتحقق نتائجه يتم فيها حفظ الإقليم، وكلمة حفظ تدل على أن مصير الإقليم لم يتحدد بعد، فالشيء يحفظ إلى وقت معين قد يطول أو يقصر، وفي النهاية إما أن يتملكه الشخص الذي يحفظه إذا توافرت الشروط القانونية لذلك، أو يرجعه إلى مالكه الأصلي بغض النظر عن الطريقة التي يتم فيها الإرجاع.

إلا أن المجتمع الدولي وجد بعد الحرب العالمية الأولى أن هذا العرف المتمثل في نقل السيادة على الإقليم بعد الانتصار الكامل يؤدي إلى استمرار المنازعات والحروب بين الدول، فرأى التخلي عنه إلى مبدا جديد هو عدم جواز الاستيلاء على أراضي الدول الأخرى بالقوة، وضرورة احترام سيادة واستقلال الدول، لذلك نجد أن معاهدة فرساي الخاصة بتنظيم احتلال الحلفاء لإقليم الراين الألماني بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن معاهدة ضم كما كان متبعا في الحروب، بل كانت معاهدة تنظيم لاحتلال جزء من أراضي الدولة المهزومة لفترة مؤقتة تنتهي عندما تتحقق شروط معينة.7

وقد تأكد هذا الاتجاه الجديد للمجتمع الدولي في ميثاق عصبة الأمم التي تعتبر أول منظمة دولية عالمية لها صفة سياسية تهدف إلى عدم اللجوء إلى الحرب واحترام الدول لقواعد القانون الدولي العام في علاقتها بعضها مع بعض، وأن تتم العلاقات بين الدول علانية وعلى أساس الشرف والعدل واحترام العهود الدولية.

كما تأكد هذا الاتجاه أيضا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كشفت هذه الحرب عن انهيار واسع المدى للنظام الذي يحكم العلاقات الدولية بحيث أصبح من ألزم الأمور التفكير في وضع نظام فعال يحكم عالم ما بعد الحرب حيث انتهت الجهود الدولية إلى إبرام ميثاق الأمم المتحدة الذي دخل في طور التنفيذ في 24 أكتوبر – تشرين ثاني في 1945.

وقد لخصت ديباجة الميثاق الدوافع والأغراض التي دفعت الدول الأعضاء إلى تكوين الأمم المتحدة، بأنها العمل على منع الحرب، وحفظ السلم والأمن الدولي واحترام حقوق الإنسان، والمساواة بين الدول، واحترام القانون الدولي العام، ورفع مستوى المعيشة في العالم، وعدم استعمال القوة في العلاقات الدولية، والتعاون الاقتصادي والاجتماعي بين الشعوب، كما بينت المادة الثانية من الميثاق المبادئ التي تعمل الهيئة وأعضاؤها وفقا لها ومنها:

  1. المساواة في السيادة بين جميع الأعضاء.
  2. تنفيذ الالتزامات الواردة في الميثاق بحسن نية.
  3. فض المنازعات الدولية بين الأعضاء بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر.
  4. امتناع الأعضاء في علاقاتهم الدولية عن أن يهددوا بالقوة أو أن يستخدموها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.

ويترتب على هذه المبادئ نتائج هامة منها.

  1. عدم جواز الادعاء بالحق التاريخين فيما قبل عصر التنظيم الدولي للمطالبة بالسيادة على إقليم دولة معينة، بمعنى أن الحق التاريخي لم يعد سببا للادعاء بملكية الإقليم عملا بميثاق الأمم المتحدة.
  2. استبعاد الفتح كسبب من أسباب اكتساب الإقليم أيضا، بحيث أصبح الإقليم المحتل يخضع لقواعد قانون الاحتلال الحربي طوال فترة الاحتلال مهما طالت إلى أن يتم إنهاء النزاع بين الدولة المنتصرة والدولة المهزومة بالطرق التي نص عليها الميثاق، دون أن يكون للدولة المحتلة ضم هذا الإقليم المحتل إليها.

فمع أن نتيجة الحرب العالمية الثانية أسفرت عن خضوع واستسلام ألمانيا، إلا أن المعنى التقليدي لهذا الاصطلاح قد تطور، فبدلا من أن يتبع هذا الخضوع ضم لألمانيا، تم استغلال الانتصار الكامل الذي حققه الحلفاء لإقامة جهاز عالمي للإشراف على الإقليم المستسلم، حيث تم بموجب ذلك مباشرة مهام الحكومة التي لم تعد موجودة في المانيا مع الإبقاء على وجود الدولة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن القول بأن الوضع في المانيا كان آنذاك احتلالا حربيا، نتيجة لتحطيم السلطة فيها ووقف جميع الأعمال العسكرية، وبالتالي فإن قانون الاحتلال الحربي لا ينطبق عليها، فالوضع برمته لم يخطر على بال واضعي ميثاق لاهاى8 لذلك أطلق البعض على هذا الوضع اسم (الاحتلال بعد الاستسلام)(Post Surrender Occupation)9 وهذا النوع من الاحتلال يهدف الى تحقيق اغراض ايدولوجية، وذلك لإحداث تغييرات جذرية في أنظمة العدو المهزوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهذا يجعله يختلف كليا عن الاحتلال الحربي الذي لا يجوز لسلطة الاحتلال بموجبه المساس بالأوضاع القائمة إلا في الحدود التي رسمها القانون الدولي.

والواقع أن القول بوجود تغيير قوانين ومؤسسات الدولة المهزومة المعارضة لمفهوم العدالة لا يعدو أن يكون تطبيقا لقواعد القانون الدولي الذي يعتبر أحد مصادره المبادئ القانونية العامة المعترف بها من قبل الأمم المتمدنه، فاذا كانت القوانين والانظمة في الدولة المهزومة تعارض هذه المبادئ، فيجب تغييرها، وهذا هو الوضع الذي كان قائما في المانيا النازية10، وهذا ما نصت عليه المادة 38 من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية، حيث أوجب على المحكمة الرجوع إلى هذه المبادئ11 أما ماهية هذه المبادئ فقد كانت موضعا لتفسيرات مختلفة منها، أنها المبادئ العامة للعدالة، والقانون الطبيعي، والمبادئ العامة للقانون الدولي، على أن غالبية الفقهاء يذهبون إلى أن المبادئ المعترف بها في نطاق القانون الداخلي تشكل احتياطيا في المبادئ القانونية التي يستطيع القاضي الدولي الالتجاء إليها وفقا للمادة 38 للحكم في النزاع الدولي المعروض إذا كان تطبيقها صحيحا وملائما لطبيعة العلاقة الدولية في النزاع المطروح.12

——————————

1“الأساس القانوني لهذا المسلك هو ما ينص عليه القانون الروماني من أن الإقليم يصبح لا مالك له res-nallius في حالة انتقاله من يد مالكه بالحرب، ويصبح مملوكا لأي شخص يضع يده عليه وذلك طوال الفترة التي يستطيع خلالها ان يحتفظ به”.

لمزيد من نقاش النظريات التي كان يستند عليها العرف الدولي في هذا المجال انظر:-

Hall: (A treatise on International Law.) 8th ed. 1924 P. 453, 454

2George Schwarzenberger: (International Law as applied by International courts and tribunals.) Vo. II LONDON Stevens & Sons 1968 P. 161

3Halleck. (International Law 3rd ed. Vol II P. 432, LONDON POUL Frensh trubner & Co. Ltd. 1893.

4R. Y. Jinnigs: (Government in Commission.) The British Year book for International Law P. 134. 1946.

5الغلبة والخضوع (Subjucation) عرفه أوبنهايم بانه تحطيم أحد المتحاربين للآخر وتدمير قواته في الحرب الدائرة بينهما وضم اقليمه بعد الانتصار.

L. Oppenheim: (International Law 6th ed. By Lauterpacht 1940 Vol. II P. 467

كما فرق

Morris Grenspan: (the modern Law of Land Warfare) University of Gal. Press 1959 P. 215.

بين الخضوع أو الغلبة وبين الاحتلال، وذهب إلى أن الخضوع يقع ليس فقط عند هزيمة الدولة المعنية بل عندما يقوم المنتصر بضم الإقليم.

كما ويذهب

McNair & Watts: (The Legal effect of ware.) P. 369 Cambridge University Press 1966

إلى أن الخضوع هو تدمير وإفناء صاحب السيادة وضم إقليمه.

ويلاحظ كما قرر Jinnings: Supra Note (4) P 186 بحق إلى أن هناك قاسما مشتركا بين هذه التعريفات سواء ظهر ذلك صراحة أو ضمنا، وهو اختفاء الدولة المهزومة بضم إقليمها الى الدولة المنتصرة وذلك كعنصر جوهري وأساسي في الخضوع والغلبة.

6McNair & Watts: (The Legal effect of war) P. 367 Cambridge University Press 1966.

7الواقع أن احتلال الحلفاء لإقليم الراين الألماني تم وفقا لاتفاقية الهدنة ومعاهدة فرساي، أما اتفاقية الهدنة فان هناك اتفاقا على أنها لا تنفي عن الاحتلال صبغته الحربية فهي تفترض أن الحرب لم تنته وبذلك فان قانون الاحتلال الحربي الذي هو جزء من قانون الحرب هو الذي يسود لتنظيم هذا الاحتلال بشرط عدم معارضته أحكام اتفاقية الهدنة.

Feilchenfied: (The International Economic Law of Belligerent Occupation) 1942 P. 393 Reprinted by Johnson Reprent Corperation 1971.

أما بالنسبة لمعاهدة فرساى فإنها بدل أن تكون معاهدة ضم كما كان متبعا في الحروب، كانت معاهدة لتنظيم احتلال جزء من أراضي الدولة المهزومة ومثل هذا الاحتلال لا يمت بصلة إلى قوانين الحرب وإنما تحكمه فقط العلاقة التعاقدية التي نشأت بالمعاهدة.

Elbridge Golby: (Occupation Under the Laws of war). Part (1) Columbia Law Review 1925 P. 905, 911.

فالاحتلال هنا كان احتلالا مدنيا وليس عسكريا، حيث جاء توفيقا لموقف أمريكا وبريطانيا من جهة وموقف فرنسا من جهة أخرى حيث كانت تريد ضم إقليم الراين وكحل توفيقي تم تنظيم اتفاقية احتلال الإقليم، وبالتالي فان قانون الاحتلال الحربي لا ينطبق هنا.

R. S. T. Chorely: (Military Occupation and the rule of Law) Modern Law Review P. 120 July 1945.

وقد ذهب رأي إلى أن لوائح لاهاى لعام 1907 تنطبق على هذا الاحتلال حيث حكمت محكمتان عسكريتان بلجيكيتان بذلك في حكمين الأول بتاريخ 13 نسان 1923 والثاني بتاريخ 27 شباط 1923، وقد ذهبت الأولى في حكمها إلى أنه ما دام أن مواثيق لاهاى تنطبق على الاحتلال الحربي الذي توجده القوة، فمن باب أولى أن يطبق على الاحتلال الذي توجده معاهدة.

– أما المحكمة الثانية فقد ذهبت إلى أنه لا يوجد مانع قانوني من وجود احتلال حربي ولو لم يكن هناك حرب بالمعنى الصحيح، ومع أن تسبيب المحكمة الثانية لحكمها صحيح إلا أن الأولى أسست حكمها على فرضية خاطئة وهي أن كل وضع لا يصل إلى مرحلة الانتصار الكامل مع ما يترتب على ذلك من نتائج فهو إذاً احتلال حربي

Joyce A. C. Gutteridge (The Rights and obligations of an occupying Power) Years book for World Affairs 1952 P. 150.

إلا أن هذا الرأي الأخير يبقى رأي أقلية والصحيح أن الاحتلال هنا ليس احتلالا حربيا وبالتالي لا ينطبق قانون الاحتلال الحربي عليه.

8R. Y. Jinnings: Supra Note (4) P. 136, 138, 139, 140

ناقش Jinnings عدم انطباق قانون الاحتلال الحربي على الوضع في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية بأن قانون الاحتلال الحربي يرمى إلى تحقيق غايتين لم تعودا تتوافران في المانيا:

  1. ان قانون الاحتلال الحربي يرمي الى حماية حقوق صاحب السيادة الشرعي في الأراضي المحتلة وبذلك فقد أنكر هذا القانون انتقال السيادة إلى سلطة الاحتلال وابقائها لصاحبها الشرعي. وفي المانيا لم يكن يوجد بعد الحرب أية حكومة يمكن القول بأنها تحتفظ بالسيادة.
  2. أن قانون الاحتلال الحربي يرمي ثانيا إلى حماية السكان في الإقليم المحتل من استغلالهم في متابعة سلطة الاحتلال للحرب بطرق محرمة وفقا للقوانين الحرب، وهذا الوضع أيضا غير متوفر لأن الحرب انتهت بصفة واقعية وإن كانت لا تزال بشكل رسمي شكلي.

نتيجة لذلك فإن أساس انطباق قانون الاحتلال الحربي غير متوفر في احتلال الحلفاء لألمانيا.

9Allen Gerson: (Israel the west bank and International Law) Franc Cass 1978 P. 5

10كقوانين التمييز العنصري التي كانت سائدة في ألمانيا النازية، وقد ذهب البعض إلى أن لسلطات الاحتلال أن تغير من هذه القوانين وذلك استثناء من المبدأ الذي يحكم الاحتلال الحربي ويمنع سلطة الاحتلال من إجراء أي تغيير في القوانين السائدة إلا في الحدود المسموح بها قانونيا، وهذا ناتج عن الرأي الذي يذهب إلى أن احتلال الحلفاء لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية هو احتلال حربي وهو ري خاطئ كما سبق بيانه.

11J. L. Brierly: (The law of Nations) 6th ed. 1963 P. 62.

12D. J. Harris: (Cases and materials on International Law) 3rd ed P. 40 LONDON SWEET & MAXWELL 1983.