الضفة الغربية و قانون الاحتلال الحربي

وكذلك الأمر في قضية (Iloilo Claim 1925)، فإن التحكيم بين بريطانيا العظمى والولايات المتحدة أكد أن احتلال الولايات المتحدة الحربي بعد الهدنة للفلبين لا يؤدي إلى نقل السيادة (فمن ناحية قانونية لا توجد سيادة على الجزر إلا بعد التصديق على المعاهدة). والمعاهدة المذكورة هي معاهدة باريس التي عقدت بين الولايات المتحدة وإسبانيا في 10-12-1898، أما تبادل الدولتين التصديق على المعاهدة فقد تم في 11-4-1899، وهذا التاريخ الأخير هو التاريخ الذي يعتد به كبداية لنقل السيادة1.

فالمبدأ المستقر إذاً هو أن السيادة لا تنتقل خلال فترة الاحتلال، إلا وفقاً لمعاهدة وبعد التصديق عليها من كلا الدولتين2.

ولكن بما أن الاحتلال يمارس السلطة الفعلية في الإقليم المحتل فإنه يكون مسؤولاً عن نتائج هذه الممارسة دولياً3. فالصلاحيات التي يمارسها الاحتلال خلال هذه الفترة تخضع كلية في الحكم بشرعيتها أو بعدم شرعيتها لقوانين الحرب – أي لقانون الاحتلال الحربي الذي تتضمنه لوائح لاهاي 1907 واتفاقية جنيف 1949 – ولذلك بجب التفرقة بين ممارسة دولة الاحتلال لسيادتها في داخل إقليمها الأصلي وبين الإجراءات التي تمارسها في الإقليم المحتل خلال فترة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي، وأي خلط بين الأمرين يؤدي إلى نتائج غير صحيحة وخادعة4.

وعلى الرغم من أن السيادة لا تنتقل خلال فترة الاحتلال، فإنه لا يتعارض مع ذلك اعتبار الإقليم المحتل بأنه جزء من دائرة نفوذ سلطة الاحتلال ويكتسب بالتالي صفة العدو، وذلك من أجل تحقيق الأهداف العسكرية5، لأن الاحتلال وبدون شك يضيف إلى المجهود الحربي لسلطة الاحتلال سواء من الناحية البشرية أو المادية، أو المعدات، وينقص بذات النسبة من المجهود الحربي للدولة المهزومة، فما دام الاحتلال قائماً فإن الإقليم المحتل يعتبر ضمن أراضي العدو من وجهة نظر صاحب السيادة الشرعي وذلك لغايات العمليات العسكرية، لأن الاحتلال يفترض أن الحرب مستمرة ولم تنته بعد، إلا أنه ما دام أن السبب في اعتبار الإقليم المحتل ضمن أراضي العدو هو “الاعتبارات الحربية” فإنه من الأفضل ترك حرية التقدير للدولة المحتل إقليمها وللدول الأخرى في اتخاذ الموقف الذي تراه مناسباً في هذا الشأن، وبالتالي يمكن القول بأن الاحتلال يضفي على الإقليم المحتل وبصفة تلقائية “صفة العدو” إلا أنه يمكن للسلطات الدولية صاحبة السيادة الشرعية وللدول الأخرى ولاعتبارات مختلفة التعامل مع مثل هذا الإقليم على أنه ليس منطقة عدوة مع ما يترتب على ذلك من نتائج6.

أما التطبيقات القضائية، فقد توافقت بشكل عام مع المبدأ السابق بيانه، إلا أن بعضها ومن منطلق محاولة تأكيدها بأن الاحتلال الحربي لا ينقل السيادة لم يستطع أن يتبين بأن الإقليم المحتل، وبهدف تحقيق الأغراض العسكرية يعتبر ضمن أراضي العدو ويكتسب هذه الصفة7. ففي قضية Thirty Hogsheads OFsugar V. Boyle 8عام 1815 تقرر المبدأ العام في هذا الصدد حيث قررت المحكمة العليا الأمريكية ما يلي:

“أن اكتساب الإقليم الذي يقع أثناء الحرب لا يعتبر نهائياً إلا إذا تأكد بمعاهدة ولذلك لا يوجد أساس للشك في ما إذا كانت جزيرة (سانتاكروز) الدنماركية الواقعة تحت الاحتلال البريطاني تعتبر جزيرة بريطانية، ولكنها على الرغم من ذلك تعتبر جزءاً من منطقة نفوذ المنتصر مادام أنه يحتفظ فيها بسلطة ثابتة”.

ومن ضمن القضايا التي خالفت أحكامها هذا المبدأ، واعتبرت منتقدة قضية (Gerasimo 1857) حيث قررت اللجنة القضائية في المجلس الاستشاري الملكي في بريطانيا بأنه “ما دام أن الاحتلال الحربي لا يؤثر على الصفة الوطنية للإقليم المحتل، فإن التاجر التابع (لمولدافيا) (Moldavia) يعتبر صديقاً حتى ولو كان في مدينة محتلة من قبل العدو (وهي) Galatz التي كانت تحت الاحتلال الروسي خلال حرب (القرم). وفات اللجنة القضائية بأن السكان في المناطق المحتلة قد يعاملون على أنهم أعداء، وذلك لغايات الانتقاص من مصادر قوة العدو، أي لغايات تحقيق الأهداف العسكرية9.

وفي خلال الحرب العالمية الأولى كان المبدأ السائد هو أنه إذا لم تكن جميع الدولة محتلة، فلا يمكن القول بأنها واقعة تحت الاحتلال وبناء على ذلك صدرت قرارات لا تعتبر بعض الشركات المسجلة في الجزء المحتل من الدولة، أنها واقعة ضمن منطقة الاحتلال، ولا تعامل على أنها ضمن منطقة نفوذ العدو تبعاً لذلك10.

إلا أن هذا المبدأ ناقشه مجلس اللوردات في عام 1945 في قضية (Sovfracht) حيث نقض حكم محكمة الاستئناف التي أصدرت حكمها وفقاً للمبدأ السابق بيانه وقرر مبدأ أصبح مستقراً، وهو أن الشركة الهولندية تعتبر عدوة نتيجة للاحتلال. حيث كان موضوع الدعوى هو بحث تأثير احتلال ألمانيا لهولندا في عام 1940، وهل يحولها من إقليم محايد إلى إقليم واقع تحت الاحتلال الحربي، وبالتالي تقرير ما إذا كان بإمكانها الاستمرار في موضوع تحكيم بينها وبين الطرف الآخر والحيلولة دون إمكانية الطعن في أهليتها للسير في إجراءات التحكيم بسبب تصنفيها كشركة عدوة11. أما في قضية U. S. A. V. Hayward عام 1815 فقد استخدم قاضي المحكمة العليا الأمريكية Story في تعليقه “على الوضع القانوني لمدينة كاستين المحتلة عبارات لا تتلاءم حتى مع المبدأ المستقر عالميا وهو أن الاحتلال الحربي لا ينقل السيادة على الإقليم المحتل إلى سلطة الاحتلال، مما جعل الفقهاء يحاولون البحث عن وسائل لملاءمة الاصطلاحات التي استعملها مع المبادئ المستقرة عالميا.

فقد احتلت القوات البريطانية مدينة كاستين (Castine) في الولايات المتحدة، وقد ذهب القاضي Story في تحليله للوضع القانوني في المدينة بعد الاحتلال إلى حد القول بأن نتيجة الاحتلال هي تعليق تطبيق القوانين الأمريكية وإعطاء القائد البريطاني السلطة المطلقة في التشريع. وأضاف بأن سيادة الولايات المتحدة لم تعد تمتد إلى ذلك المكان. وقد ذهب رأي إلى أن كلمة “سيادة” التي استعملها القاضي “تعني السلطة الفعلية” وذلك حتى يتوافق معنى هذا الاصطلاح مع المبدأ المستقر وهو أن الاحتلال لا ينقل السيادة، أما إضفاءه السلطة غير المحدودة في التشريع لسلطة الاحتلال، فإنه لم يكن يعني أن تلك السلطة ليست محدودة وتمكنه من تغيير القوانين ولكنه يعني فقط أن هذه السلطة هي من الناحية العملية واسعة إلى الحد الأقصى12.

كما وأن هذا التعليق حدا ببعض الفقهاء إلى القول بأن التطبيقات العملية القديمة قد تركت آثارها الواضحة على النظرية الحديثة. فتعليق القاضي (Story) هو دليل على أن السيادة تنتقل حالاً إلى سلطة الاحتلال مع أن هذا الانتقال هو مؤقت فقط بالمدة التي تستطيع فيها سلطة الاحتلال الاحتفاظ بالسلطة الفعالة في الإقليم المحتل13.

والصحيح هو أن المعنى الفعلي للقرار في هذه القضية هو أنه وفقاً للإجراءات الجمركية الأمريكية فإن مدينة (Castine) التي كانت تحت سلطة العدو يجب اعتبارها (ميناءا أجنبياً)14.

——————————

1George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 170.

2أما الإجراء الآخر الذي كان يترتب عليه نقل السيادة وفقاً للقانون الدولي التقليدي فهو الخضوع والاستسلام الذي يعقبه ضم، ولكن اصطلاح الخضوع تغير معناه وفقاً للتطورات التي طرأت بعد الحرب العالمية الأولى ومجيء الأمم المتحدة، انظر سابقا (ص2).

3VON Glahn: Supra Note (16) P. 32.

4George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 171.

ففي قضية Ralli Brothers V. Germany 1923 قررت هيئة المحكمين المختلطة البريطانية الألمانية بأن النظر إلى شرعية أو عدم شرعية نزع ملكية ومصادرة أملاك الأجانب يتم وفقاً للقانون الداخلي أي من خلال ممارسة الاختصاص الإقليمي، أما في الإقليم المحتل حربياً فإن شرعية أو عدم شرعية استخدام الممتلكات في إقليم العدو المحتل يقع وبصفة مطلقة ضمن نطاق قانون الحرب.

5VON Glahn: Supra Note (16) P. 32.

6McNair & Watts: Supra Note (6) P. 377.

7McNair & Watts: Supra Note (6) P. 372.

8في خلال حروب نابليون احتل الجيش البريطاني جزيرة سانتاكروز الدنماركية، وبقي فيها لغاية 1814، حيث أرجعت إلى الدنمارك بموجب معاهدة السلام 1814، وخلال الاحتلال البريطاني للجزيرة غادر (Bentzon) المواطن الدنماركي الجزيرة وذهب إلى الدنمارك حيث أدار مزرعته في الجزيرة بواسطة وكيل، الذي قام بشحن “السكر” من إنتاج المزرعة إلى بريطانيا، وفي خلال هذه الفترة نشبت الحرب بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فقامت السفن الأمريكية بالاستيلاء على الشحنة وجلبها إلى الولايات المتحدة لعرضها أمام محكمة الغنائم (Prize Court). فقام (Bentzon) صاحب المزرعة بالتدخل، وادعى بأن السكر هو ملك لحيادي وليس لطرف في الحرب، وبذلك فإنه ليس خاضعا للاستيلاء عليه من قبل السفن الأمريكية، ولكن المحكمة العليا لم تأخذ بهذا الادعاء وقررت المبدأ المثبت أعلاه، وأضافت بأنه في وقت الحرب، فإن الأرض تعتبر منطقة عدوة أو صديقة وفقاً للظروف السائدة في البلد التي تقع فيها ولا أهمية للمكان الذي يقيم فيه مالكها.

ومن ضمن القضايا التي فصل فيها وفقاً لهذا المبدأ Hagedown V. Bell 1813 حيث كانت مطالبة المستأنف بقيمة بوليصة تأمين بحري نيابة عن تجار يقيمون في هامبرغ الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي، فقد قررت المحكمة بأنه على الرغم من أن هامبرغ تعتبر معادية وقت نفاذ مفعول البوليصة لأنها محتلة من قبل الجيش الفرنسي، فإن التعامل التجاري معها يعتبر مشروعاً فقط بسبب توجيهات الحكومة التي رأت معاملتها كذلك لاعتبارات سياسية”.

وكذلك في قضية Mitzui V. Mumford، حيث تقرر بأن مدينة انتورب بعد 9 اكتوبر عام 1914 أصحبت منطقة عدوة ولا يجوز الدخول في صفقات تجارية مع الأشخاص المقيمين فيها.

9Thomas Baty: (International Law in Twilight) P. 159 Tokyo Moruzen Company Ltd 1954.

10قضية Societe Anonyme Belge des Nines D’Aljustrel V. Belgian Agency.

وقضية Re Deulsche Bank (LONDON Agency)

McNair & Watts: Supra Note (6) P. 374.

11تكتسب قضية (Sovfracht) أهمية خاصة نظراً لأنه خلال الحرب العالمية الثانية لم تقع جميع إجزاء الدول الأوروبية تحت الاحتلال الألماني بل بقيت في معظمها أجزاء غير خاضعة للاحتلال.

12Thomas Baty: International Law in twilight: Supra Note (80) P. 160.

13Elbridge Colby: Supra Note (7) P. 916.

14 Thomas Baty: International Law in twilight: Supra Note (80) P. 161.

أما Lester B. Orfield & Edward D. R. G. في مؤلفهما Cases and Materials On International Law 1955. P. 668.فقد قررا على خلاف الحقيقة بأن وجهة النظر الأمريكية خلال القرن التاسع عشر هي أن الانتصار العسكري يؤدي إلى انتقال السيادة كلياً إلى سلطة الاحتلال ويستندان إلى هذه القضية في التدليل على وجهة نظرهما، وقررا بأن وجهة النظر هذه لم تتغير إلا بعد لوائح لاهاي المتعلقة بأعراف وقوانين الحرب البرية التي صدقت عليها الولايات المتحدة كملحق لاتفاقية لاهاي الرابعة عام 1907 ومنذ ذلك الحين أصبح من المقرر أن السيادة على الإقليم المحتل لا تنتقل إلى دولة الاحتلال بل يكتسب فقط سلطة إدارية مؤقتة.