الفصل الأول – القواعد العامة للطعن في الأحكام

      يشتمل هذا الفصل على خصوم الطعن، وميعاد الطعن، والحكم المطعون فيه، ونتناول كل موضوع منها في مبحث على التوالي.

المبحث الأول

خصوم الطعن

      خصوم الطعن هما الطاعن والمطعون عليه، وقد اشترط القانون في كل منهما شروطا معينة نبينها في مطلبين على التوالي، ثم نبين من يفيد من الطعن ومن يحتج به عليه في مطلب ثالث.

المطلب الأول

الطاعن

      الطاعن هو الطرف الإيجابي في خصومة الطعن، أي من يرفع الطعن، وهو الشخص المحكوم ضده في الدعوى، سواء كان مدع أو مدعى عليه أمام أول درجة.

      ويشترط في الطاعن حتى يقبل طعنه ما يأتي:

أولا: أن يكون ذا صفة بأن يكون طرفا في الخصومة التي صدر فيها الحكم.(1)

      العبرة في توافر الصفة هي بحقيقة الواقع في الدعوى؛ بأن يكون الخصم طرفا فيها بشخصه أو بمن يمثله، فالحكم لا يحوز الحجية ولا يحتج به إلا بين الخصوم في الدعوى التي صدر فيها الحكم، لذلك لا يحق للغير الذي لم يكن طرفا في الخصومة التي صدر فيها الحكم الطعن فيه، لأنه لا يؤثر على حقوقه ولا يحتج به عليه.

      وعلى ذلك لا يقبل الطعن من أب في حكم صدر على ابنه؛ أو من أخ في حكم صدر على أخيه؛ ما دام أنه لا صفة له في تمثيله. وكذلك لا يقبل الطعن ممن أخرجته المحكمة من الخصومة قبل صدور الحكم فيها فلم يعد طرفا فيها بشخصه أو بمن يمثله، فيكفي أن ينكر حجية الحكم بالنسبة له لأنه ليس طرفا في الخصومة التي صدر فيها.

      بينما يعد المتدخل أو المختصم في الدعوى طرفا في الخصومة؛ سواء كان تدخله اختصاميا أم انظماميا، وسواء كان مختصما بناء على طلب أحد الخصوم أم بأمر من المحكمة. أما إذا رفضت المحكمة التدخل أو رفضت إدخال الغير؛ أو حكمت بعدم قبول ذلك، فإن المتدخل أو المطلوب إدخاله لا يعد طرفا في الخصومة التي يصدر فيها الحكم؛ ولا يحق له الطعن فيه بهذه الصفة.

      وحيث إن أثر الحكم يمتد إلى خلف أطراف الخصومة، سواء كان خلفا عاما أم خلفا خاصا، فإنه إذا انتقل الحق المتنازع عليه إلى الخلف بعد صدور الحكم على السلف، يكون للخلف – كقاعدة عامة – الطعن في الحكم الصادر على سلفه، ويجب أن يرفع الطعن – كقاعدة عامة – باسم الخلف الذي آل إليه الحق المتنازع عليه مثل المشتري للعين أو الموهوب له أو الوارث,

      أما إذا آل الحق إلى الخلف قبل صدور الحكم في الدعوى، فإن الخصومة تنقطع عملا بالمادة 128 ويعد كل إجراء أو حكم يتم فيها بعد الانقطاع باطلا، وللخلف التمسك بهذا البطلان عملا بالقواعد العامة في هذا الصدد.

ثانيا: أن يختصم (بتقديم طعنه) بنفس الصفة التي اتصف بها في الخصومة التي صدر فيها الحكم، وإلا كان خصما آخر فلا يقبل طعنه.

      فإذا طالب المدعي بالمدعى به لنفسه، بصفته خصما أصليا يجب أن يطعن في الحكم بهذه الصفة؛ ولا يجوز له الطعن في الحكم بالاستئناف بصفته نائبا عن صاحب الحق أو وصيا أو وليا عليه. وإذا كانت صفته أنه ممثل قانوني عن أحد الخصوم يجب أن يطعن في الحكم بهذه الصفة ولا يجوز له أن يطعن فيه بصفته خصما أصليا، وإلا رفض طعنه لعدم توافر الصفة فيه. على أن حق الطعن قد يعود لشخص آخر غير الشخص الذي كان طرفا في الدعوى أمام المحكمة البدائية، فيما إذا حل هذا الشخص في الصفة أو الوظيفة التي يقوم بها محل الشخص الأول، فإذا رفع مدير الشركة أو رفعت على الشركة دعوى بمواجهته، وتبدل المدير بغيره بعد صدور الحكم، يحق للشخص الثاني الطعن في الحكم وإن لم يكن بصفته الشخصية أو التمثيلية طرفا في الدعوى أمام المحكمة البدائية(1).

      ويستدل على صفة الخصم بما جاء في لائحة الدعوى التي صدر فيها الحكم؛ وبما جاء في الحكم المطعون فيه سواء في منطوقة أو في أسبابه المتصلة بواقع الدعوى.

ثالثا: أن تكون للطاعن مصلحة في طعنه (م 2/191).(1)

      الشخص الذي يحق له الطعن في الحكم هو الشخص المتضرر من الحكم، ولا يعتبر متضررا إلا إذا كان الضرر ناشئا عن منطوق الحكم لا عن أسبابه، لأن منطوق الحكم هو وحده الذي يقبل التنفيذ.

      فإذا صدر الحكم لمصلحة خصم وقضى له بكل طلباته، لا يجدي الطعن عليه من جانب هذا الخصم بمقولة أنه قد أغفل سماع شاهد أو أغفل الإشارة إلى مستند معين، أو أغفل دفعا تقدم به، أو أخطأ في رفض دفع تقدم به، أو لتعديل بعض الأسباب التي لم تصادف رضاه، متى كانت جميع هذه الأسباب لا تجدي ولا تغير وجه الدعوى التي صدر فيها الحكم لمصلحة الطاعن ولا يتصور أن يحكم له بأكثر مما قضى له به.

وتتوفر مصلحة للطاعن متى حكم عليه بالمصاريف؛ ولو حكم لصالحه في الموضوع، ولكن لا يقبل الطعن ممن لم يقضى عليه بشيء؛ ولم يلزم بشيء من المصاريف ولو حكم على من كان معه من الخصوم، إلا إذا كان نائبا عن هؤلاء نيابة قانونية أو قضائية أو اتفاقية. وتتوافر المصلحة كذلك إذا حكم للخصم بطلباته الاحتياطية دون الطلبات الأصلية فيجوز له الطعن في الحكم بالنسبة للطلبات الأصلية.

 ولا يقبل الطعن إذا كان لا يحقق لصاحبه سوى مصلحة نظرية ، كما لو كان الحكم قد رد الاستئناف وكان يجب أن يحكم بعدم قبوله لتقديمه بعد الميعاد وليس رده.(2)

رابعا: ألا يكون الطاعن قد قبل الحكم صراحة أو ضمنا أو أسقط حقه أمام المحكمة إسقاطا مبرئا لذمة الخصم (م 2/191).

      بصدور الحكم وإيداع مسودته في ملف الدعوى، يفترض أن المحكوم عليه على علم به وبمحتوياته وأسبابه، لذلك فإن قبول الحكم صراحة أو ضمنا يعني سلامة هذا الحكم وصحة ما قرره، فلا يجوز بعد ذلك لمن قبله أن يطعن فيه. وحتى يعتد بهذا القبول يجب أن يكون واضحا يبين بجلاء إرادة الخصم بهذا الرضا؛ فلا يؤخذ بالظن ولا يقبل التأويل. فإن كان هناك شك في حقيقة المقصود يجب أن يفسر لمصلحة المحكوم عليه لأن الأصل أن لا يتنازل صاحب الحق عن حقه؛ فلا يفترض هذا التنازل.

      ويكيف القبول في هذه الحالة بأنه تصرف قانوني صادر بالإرادة المنفردة، ولذلك لا يشترط لوقوعه رضا الطرف الآخر، ويجب أن تتوفر في القابل أهلية التصرف.

      والقبول قد يكون صريحا، بإعلان إرادة صريحة من جانب القابل بعدم الرغبة في الطعن، وصور إيقاعه متعددة، وللمحكمة سلطة مطلقة في تقدير وقوعه أو عدم وقوعه. كما قد يكون القبول ضمنيا، بسلوك ممن له الحق في الطعن لا يتفق مع إرادة الطعن في الحكم بالطرق التي يقررها القانون. ويمكن القول إن تنفيذ الحكم اختياريا ولو لم يكن واجب التنفيذ، يعد من قبيل القبول الضمني للحكم، بل قد تكون هذه هي الصورة الوحيدة للقبول الضمني. أما مبادرة المحكوم عليه بتنفيذ الحكم المشمول بالنفاذ المعجل، فلا يعتبر قبولا لأنه نفذه ليتفادى التنفيذ الجبري عليه، وكذلك قيام خصم بتبليغ الحكم إلى خصمه، أو تفويض الرأي للمحكمة، لا يعد قبولا ضمنيا بالحكم .

      ويجب أن يكون الرضا الصادر من المحكوم عليه خاليا من العيوب، فإذا كان قد تم عن غلط أو إكراه أو تغرير؛ فلا يعتد به. وعلى ذلك إذا بني الحكم على ورقة وقضي فيما بعد بتزويرها أو أقر الخصم بذلك، أو على شهادة شاهد قضي بعد صدوره بأنها مزورة، أو إذا حصل المحكوم عليه بعد صدور الحكم على أوراق قاطعة في الدعوى كان خصمه قد حال دون تقديمها، فإن رضا المحكوم عليه بالحكم يفسد ويكون له الطعن في الحكم بطريق الطعن الجائز قانونا. ويقع عبء إثبات عيوب الرضا على الخصم الذي صدر منه القبول عملا بالقواعد العامة في الإثبات.

      ويرتب القبول أثره ولو كان الحكم باطلا أو بني على إجراء باطل، لأن قبول الحكم في هذه الحالة يتضمن تنازلا عن التمسك بالجزاء بعد ثبوت الحق فيه، وهو جائز ما لم يتعلق الجزاء بالنظام العام، فلا يملك المحكوم عليه بعد ذلك التمسك بجهله بالبطلان للتحلل من هذا القبول، لأنه يفترض علمه بكل مواطن البطلان في التشريع ونوعه وكيفية التمسك به، ولا يعتد بجهله بالقانون.

      وقد يكون القبول شاملا الحكم الابتدائي كله، كما قد ينصب على جزء منه فقط. وقبول الخصم لأحد أجزاء الحكم لا يفيد قبوله للأجزاء الأخرى، وإنما قبول الحكم في الموضوع يمنع من الطعن فيه وفي سائر الأحكام الفرعية الصادرة قبله.

      كما أن قبول الحكم من أحد المحكوم عليهم لا يمنع الباقين من الطعن فيه، فالرضا بالحكم من جانب أحد المحكوم عليهم لا ينتج أثره بالنسبة للباقين.

      ومتى تم القبول، صريحا أو ضمنيا، كليا أو جزئيا، وقع باتا لا يجوز العدول عنه، ويتحصن به الحكم من الطعن أيا كان وجه النعي أو سبب البطلان.

      ويكون قبول الحكم لاحقا لصدوره، كما يستفاد من صدور الحكم موافقا لطلبات الخصم. فإذا طلب أحد الخصوم توجيه اليمين الحاسمة إلى خصمه؛ فإن ذلك يعد قبولا منه للحكم الذي يصدر بتوجيه هذه اليمين.

      أما اتفاق طرفي الخصومة على تنازل كل منهما مقدما عن الطعن في الحكم الذي يصدر في الدعوى فإنه لا يعد قبولا بالحكم لأن حق الالتجاء إلى القضاء – ومن باب أولى حق مباشرة الدعوى – حق عام لا يجوز النزول عنه ولا يعتد بهذا النزول لأنه يخالف النظام العام. فالتنازل مقدما عن الطعن في الحكم الذي خوله القانون للخصم هو تنازل عن الوسيلة التي بمقتضاها يحمي الخصم حقه، وهذا لا يجوز لأنه لا يؤمن معه التعسف وفيه اعتداء على قواعد نظام القضاء ودرجاته التي يقصد بها استكمال حماية حقوق الأشخاص. فالدعوى ليست هي سلطة الالتجاء إلى القضاء لحماية الحق فحسب، وإنما هي سلطة الالتجاء إليه واستنفاد جميع الوسائل المقررة قانونا لحمايته، وإنما يجوز التنازل عن الطعن في الحكم بعد ثبوت الحق فيه(1).

      ويكون القبول من أحد أطراف الخصومة التي صدر فيها الحكم سواء بشخصه أم بمن يمثله، ولكن لا يجوز القبول من الوكيل بالخصومة إلا إذا كان مفوضا بذلك تفويضا خاصا وإلا جاز للموكل التنصل منه.

      والقبول المانع من الطعن يزود الحكم الابتدائي بصفة النهائية التي تجعله يحوز قوة الأمر المقضي به، ويمنع من الطعن فيه بهذه الصفة بطرق الطعن غير العادية، وذلك لأنه لم يتم استنفاد الطرق العادية بالنسبة لهذا الحكم الذي كان محلا للقبول.

      وقبول الحكم ينشئ دفعا بعدم قبول الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن، وهذا الدفع يتصل بالنظام العام، لذلك فإن القاضي يملك من تلقاء نفسه عدم قبول الطعن ممن قبل الحكم وتنازل صراحة عن الطعن فيه. ولقاضي الموضوع سلطة تقديرية كاملة لتحديد ما إذا كان المنسوب إلى المحكوم عليه يدل على قبوله للحكم الصادر عليه؛ أو لا يؤدي إلى هذا القبول، سواء كان الصادر منه عملا ماديا أم إجراء قانونيا؛ قضائيا أو غير قضائي. ويتعين التقيد في هذا الصدد بالقواعد العامة في الإثبات، ولمحكمة النقض مراقبة الأسباب السائغة التي بني عليها الحكم بالاعتداد بالقبول.


(1) لا يشترط القانون بيان صفة مقدم الطعن في موضع معين من لائحة الطعن فيكفي أن يرد في أي موضع من لائحة الطعن. نقض مدني 260/ 2005 تاريخ 19/12/2006 ج 1 ص 417 وقد جاء فيه : لا يقبل الطعن بالاستئناف إلا ممن كان خصما في النزاع الذي فصل فيه بصفته التي كان متصفا بها.

(1) د. رزق الله أنطاكي، ص 734.

(1) نقض مدني 283/2005 تاريخ 9/4/2006 ج 3 ص 75 وقد جاء فيه : المصلحة شرط لقبول الطعن وهي تتعلق بالنظام العام وتملك المحكمة إثارتها من تلقاء نفسها.

(2) د. أحمد هندي ص 973.

(1) د. أحمد أبو الوفا، نظرية الأحكام، ص 815 و 816. د. رزق الله أنطاكي، 712.

أما قانون أصول المحاكمات الحقوقية لسنة 1952 الملغى فقد كان يعتبر حق الاستئناف حقا شخصيا يعود أمر تقديره للخصوم أنفسهم ولا يعتبر من النظام العام، ويجيز الاتفاق على التنازل عن الاستئناف مقدما، حيث كانت المادة (206) منه تنص على أنه “إذا اتفق الفريقان على أن ترى دعواهما وتفصل في المحكمة البدائية دون أن يكون لأي منهما الحق في استئناف حكم تلك المحكمة لا يبقى لأي منهما الحق في استئناف الحكم الذي تصدره محكمة البداية فيها”. كما نصت على ذلك أيضا المادة (177) من قانون أصول المحاكمات المدنية الأردنية لسنة 1988.