الفصل الأول – الودائع المصرفية

المبحث الثاني

وديعة الأوراق المالية

وديعة الأوراق المالية من العمليات المصرفية التي تقوم بها جميع المصارف خدمة لعملائها، وهي تشمل الأسهم وسندات القرض؛ سواء صدرت عن شركات المساهمة العامة؛ أم عن أشخاص القانون العام.

وتتم هذه العملية بموجب عقد يودع بمقتضاه المالك أوراقه المالية لدى المصرف الذي يلتزم بحفظها وردها بذاتها أو من نوعها وفق الشروط المتفق عليها في العقد.

ويلجأ المالكون لإيداع هذه الأوراق لدى المصرف، للاستفادة من خبرات المصرف في إدارة واستثمار الأوراق المالية على الوجه الأفضل مقابل أجر يتفق عليه الطرفان، نظرا لما تحتاج إليه هذه العمليات من دراية ومعرفة كافية بمختلف أوجه توظيف الأموال وتقدير المخاطر التي تنشأ عنها، ومتابعة يومية للعمليات التي تجري في البورصات المحلية والعالمية، الأمر الذي يصعب على العملاء متابعته بأنفسهم.(9)

كما أن وديعة الأوراق المالية تعد بالنسبة للمصرف وسيلة لجذب العملاء، حيث تؤدي هذه العملية إلى معاملات أخرى مع المودع، فيزداد عدد المتعاملين بمختلف العمليات المصرفية الأخرى من إيداع نقود وفتح اعتمادات وغير ذلك من أعمال المصارف. (10)

وعند إيداع الأوراق المالية لدى المصرف، فإنه يفتح حسابا لها باسم المودع؛ ويقوم بالتحري عنها، ويحرر بها قائمة تتضمن سائر البيانات المتعلقة بها والتي تسمح بتمييزها عن غيرها؛ كنوعها وعددها وأرقامها واسم الهيئة أو الشركة التي أصدرتها، والعلامات المميزة لها وقيمتها الإسمية، وما إذا كانت مدفوعة بالكامل أم لا، وما إذا كانت اسمية أم للحامل، وتاريخ الاستحقاق، وقسائم الأرباح المرتبطة بها، ورقم الإيصال المعطى للمودع، ويوقع المودع عادة على هذه القائمة.

ويحتفظ المصرف بهذه القائمة؛ ثم يسلم المودع إيصالا يوقع عليه المصرف، يتضمن ذات البيانات التي ذكرت في القائمة؛ وشروط عقد الإيداع. ويعتبر هذا الإيصال كوثيقة يستند إليها المودع في بعض الأعمال المتعلقة بالأوراق المالية المودعة، ولكن دون أن تكون له قوة ثبوتية مطلقة، ومن هذه الأعمال:

  1. حضور الهيئات العامة للمساهمين، حيث يقوم الإيصال مقام إبراز السهم ذاته، إلا إذا اشترط نظام الشركة خلاف ذلك.
  2. تسليم الإيصال إلى دائن المودع على سبيل الرهن، غير أن مفعول هذا الرهن وآثاره غير مضمونة، لأن المصرف لا يستطيع – في حالة وجود خلاف ما – تسليم الأوراق المالية إلا إلى مالكها الحقيقي؛ وبعد التأكد من هويته، وبذلك يكون استخدام الإيصال في عملية الرهن غير مجد ما لم يقترن الرهن بتوكيل الدائن المرتهن باسترداد هذه الأوراق.

ويحتفظ المودع بهذا الإيصال ولا يسلمه للمصرف إلا عند استرداد الوديعة. ويفيد هذا الإيصال في إثبات الوديعة وملكية المودع للأوراق المالية إن أفلس المصرف وأراد استرداد أوراقه من التفليسة.

وقد أشارت المادة 116 من قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966 إلى وديعة الأوراق المالية بقولها:

  1. إذا كان ما أودع في المصرف أوراقا مالية فملكية هذه الأوراق تبقى للمودع ما لم يثبت أن القصد خلاف ذلك.
  2. ويقدر وجود هذا القصد إذا كان المودع قد منح المصرف خطيا بدون قيد حق التصرف في تلك الأوراق واعترف له بحق إرجاع أوراق من نوعها.
  3. وتطبق قواعد الوكالة على الودائع المصرفية إذا أخذ المصرف على نفسه إدارة الأوراق المالية المودعة مقابل عمولة.

وقد نصت المادة 13 /1 من القرار بقانون رقم 9 لسنة 2010 بشأن المصارف على أنه يجوز للمصارف ممارسة الأعمال والأنشطة المصرفية التالية وفق ما تقرره سلطة النقد: …. د-بيع وشراء أدوات السوق النقدية (الآنية والآجلة) وسندات الدين، لحسابه الخاص أو لحساب العملاء…..ك: تقديم خدمات الحفظ الأمين، وإدارة المقتنيات الثمينة بما في ذلك الأوراق المالية.

كما أصدر المشرع الفلسطيني قانون الأوراق المالية رقم 12 لسنة 2004، ونصت المادة (3) منه على أنه:

  1. يقصد بالأوراق المالية حقوق ملكية أو أدوات دين، سواء كانت محلية أو أجنبية، توافق الهيئة على اعتمادها كذلك.
  2. تشمل الأوراق المالية بصورة خاصة ما يلي:
  1. الأسهم والسندات.
  2. الوحدات الاستثمارية الصادرة عن صناديق الاستثمار.
  3. المشتقات المالية ومنها الأسهم والسندات القابلة للتحويل، وعقود خيار البيع وعقود خيار الشراء.
  4. العقود آنية التسوية والعقود آجلة التسوية.

كما نصت المادة (4) منه على أنه: لا تعتبر أوراقا مالية:

  1. الأوراق التجارية بما في ذلك الشيكات والكمبيالات.
  2. الاعتمادات المستندية والحوالات والأدوات التي تتداولها المصارف حصرا فيما بينها.
  3. بوالص التأمين والحقوق المترتبة على صناديق التقاعد للمنتفعين التي تتم تغذيتها من غير مصادر مساهماتهم.

ولم تضع التشريعات التي نظمت هذه العملية تعريفا خاصا لها، عدا قانون المعاملات التجارية الإماراتي الاتحادي رقم 18 لسنة 1993 في المادة 458 منه حيث نصت على أن (وديعة الأوراق المالية لدى المصرف عقد يسلم فيه العميل إلى المصرف الأوراق المالية المتفق على إيداعها، ويعطي المصرف للعميل عند استلامه الأوراق إيصالا يتضمن شروط العقد وأرقام تلك الأوراق، ولا يمثل هذا الإيصال الأوراق المالية المودعة ولا يقوم مقامها؛ وإنما يعد مجرد أداة لإثبات العقد).

ونبحث إبرام عقد وديعة الأوراق المالية، وإثباته وخصائصه في مطلب أول، وآثاره في مطلب ثان.

المطلب الأول

إبرام العقد وآثاره وخصائصه

يتم عقد وديعة الأوراق المالية بمجرد تطابق إرادتي المصرف والعميل، على أن يكون التعبير عن إرادة كل منهما صادرا عن ذي أهلية؛ وأن تكون إرادة العميل خالية من العيوب التي تفسد الرضا؛ كالغلط والإكراه والتغرير والغبن. وأن يكون المصرف المودع لديه مصرفا تجاريا. ونقتصر هنا على خصوصية وديعة الأوراق المالية من حيث إنشاء العقد.

فبالنسبة للتراضي، قد يتم التعبير عن الإرادة صراحة، حيث جرى التطبيق العملي على أن يقوم المصرف بتحديد شروط العقد في نموذج يقوم العميل بملئه والتوقيع عليه تعبيرا عن إرادته بإبرام وديعة الأوراق المالية. كما قد يتم التعبير ضمنا كما لو ترك العميل الأوراق المالية في حيازة المصرف الذي كان مكلفا بشرائها ما يفهم منه إرادة العميل الإبقاء على هذه الأوراق المالية وديعة تحت يد المصرف، وتوصف هذه الحالة بالوديعة التلقائية. (11)

والمحل في هذا العقد هو الأوراق المالية التي يودعها العميل لدى المصرف، والتي عددتها المادة 3 من قانون الأوراق المالية لسنة 2004، ويشترط وفقا للقواعد العامة؛ أن تكون موجودة حين إبرام العقد، وأن تكون قابلة للتعامل بها، وأن تكون معينة تعيينا نافيا للجهالة الفاحشة، لذلك جرى العمل – كما تقدم – أن يحرر المصرف عند إيداع الأوراق قائمة تتضمن بيانات عنها تهدف إلى تعيين ذاتيتها بصورة نافية للجهالة.

كما يشترط أن تكون مملوكة للعميل. ولا صعوبة في ذلك عندما تكون هذه الأوراق اسمية، ولكن تكمن الصعوبة عندما تكون صادرة للحامل، حيث ذهب رأي إلى أن المصرف غير مكلف بالتحقق من ملكية المودع لها لأن حيازة المنقول قرينة على ملكيته. بينما ذهب رأي آخر إلى أن العميل ملزم بتقديم ما يثبت ملكيته للأوراق غير الإسمية كفاتورة الشراء الصادرة لصالحه.(12)

أما السبب في العقد، فيتمثل في رغبة العميل في المحافظة على أوراقه المالية؛ وإدارتها. أما بالنسبة للمصرف فيتمثل في الحصول على العمولة المتفق عليها، وهو باعث موجود ومشروع بالنسبة لطرفيه.

ومع أن ركن الرضا يتطلب أن يتفق المصرف والعميل على شروط العقد، إلا أن العمل يجري على أن يستقل المصرف بوضع شروطه، ومع ذلك لا يعد هذا العقد عقد إذعان؛ لأن استقلال المصرف في وضع شروطه ليس سوى مظهرا من مظاهر الإسراع في إتمام هذا العقد، ولا يتضمن معنى الإذعان، لأن العميل لا يعد طرفا ضعيفا تضطره الحاجة إلى إيداع أوراقه لدى المصرف أيا كانت الشروط؛ ولأن العقد لا يتعلق بمرفق يعد من ضروريات الحياة، ولأن للعميل اختيار المصرف الذي يتعامل معه.

والوديعة من أعمال الحفظ، لذلك فإن الأصل أن تكون بلا أجر، ولكن الوديعة لدى المصرف تكون مأجورة دائما؛ باعتبار العقد بالنسبة للمصرف يعد عملا تجاريا بحكم ماهيته الذاتية؛ وكل التزام تجاري يقصد به القيام بعمل أو خدمة لا يعد معقودا على وجه مجاني كما نصت على ذلك المادة 55 من قانون التجارة.(13)

الطبيعة القانونية لوديعة الأوراق المالية:

قبل صدور قانون الأوراق المالية، كان عقد وديعة الأوراق المالية يعد من العقود غير المسماة، لذلك ثار خلاف حول طبيعته القانونية، ودون الخوض في تفاصيل الخلاف، إذا كان الهدف من وديعة الأوراق المالية هو مجرد حفظها من الضياع والتلف والسرقة، فإن العقد يكون عقد وديعة. غير أن العميل في الغالب لا يهدف لمجرد الحفظ وإلا لقام باستئجار خزانة في المصرف احتفظ فيها بهذه الأوراق المالية، وإنما يسعى العميل من هذه الوديعة أن يتكفل المصرف بإدارة الأوراق، أي أن قصد الطرفين ينصب على الأمرين معا (أي حفظ الأوراق المودعة وإدارتها) وهذا هو الغالب، وبذلك فإن هذا التصرف يكون تصرفا مركبا من عقدي الوديعة والوكالة، سواء كانت الوكالة صريحة أو ضمنية، وسواء كان عقد الوديعة تابعا لعقد الوكالة أو العكس، وفقا للغرض الأصلي من العقد بحسب نشأته. لذلك تطبق أحكام الوديعة على الالتزام بالحفظ والرد، وأحكام الوكالة فيما يتعلق بعمليات خدمة الأوراق المالية كقبض الأرباح والفوائد وبيع الأوراق وشرائها.

ولكن بعد تنظيمه بقانون الأوراق المالية أصبح من العقود المسماة التي أضافها القانون ونظم أحكامه والتزامات طرفيه بما يغني عن البحث في عقدي الوديعة والوكالة.

خصائصه:

يتبين مما سبق أن عقد وديعة الأوراق المالية يمتاز وفق قانون التجارة بأنه عقد تجاري، وأنه من عقود المعاوضة الملزمة للجانبين، كما أنه عقد عيني، بحيث لا يتم انعقاده بمجرد التراضي بل لا بد من تسليم الأوراق المالية محل العقد تطبيقا لما تقتضي به القواعد العامة في عقد الوديعة.(14) وهو عقد رضائي ينعقد بمجرد تطابق الإيجاب والقبول، وكتابة عقد وديعة الأوراق المالية هو وسيلة لإثبات العقد وليس شرطا لتكوينه، ولكن في حالة منح المصرف حق التصرف في الأوراق المودعة اشترط أن يكون ذلك خطيا؛ وفي هذه الحالة يصبح العقد شكليا.

إثبات العقد:

لا تثير مسألة إثبات عقد وديعة الأوراق المالية؛ سواء في مواجهة المصرف أو في مواجهة العميل؛ نزاعا في العمل، لأنه – كما تقدم – يحرر عند الإيداع قائمة تتضمن بيانات عن الأوراق المالية المودعة ويحتفظ المصرف بهذه القائمة ويسلم العميل إيصالا يتضمن ذات البيانات وأهم شروط عقد الإيداع، ويحتفظ العميل بهذا الإيصال ولا يسلمه إلى المصرف إلا عند استرداد الوديعة، ويستخدم هذا الإيصال في إثبات استلام المصرف الأوراق المالية المودعة من قبل العميل المودع.

غير أن هذا الإيصال لا يمثل الأوراق المالية ذاتها، بل يمثل دين المصرف تجاه العميل المودع،(15) لذلك يرى البعض أنه قد يفقد أهميته في الإثبات عند تغيير الأوراق المودعة نتيجة إجراء عمليات بيع وشراء عليها، لأن هذا الإيصال الأول لا يحتوي على بيانات الأوراق المالية الجديدة التي يتم إيداعها نتيجة توالي العمليات التجارية عليها. (16)

لذلك ذهب رأي إلى أنه ينطبق على وديعة الأوراق المالية ما ينطبق على وديعة النقود؛ من وجوب إثبات جميع العمليات المتعلقة بالوديعة أو إرجاعها بالوسائل الخطية عملا بالمادة 115/2 من قانون التجارة لسنة 1966 التي وردت بشأن وديعة النقود، لأن هذه الفقرة تضمنت قاعدة عامة تشمل جميع العمليات المتعلقة بالوديعة؛ سواء أكانت وديعة نقدية أم وديعة أوراق مالية. (17)

بينما ذهب رأي آخر إلى أن المادة 115/2 من قانون التجارة الخاصة بالوديعة النقدية جاءت استثناء من القاعدة العامة في حرية الإثبات في المواد التجارية لذلك لا ينطبق على وديعة الأوراق المالية التي خصص لها المادة 116 من ذات القانون والتي لم تستلزم الكتابة إلا في تقدير قصد المودع في نقل ملكية الأوراق المالية المودعة إلى المصرف، وأن الاستثناء الوارد في المادة 115 لا يجوز التوسع فيه ولا القياس عليه.(18)

ونحن نرى أن النتيجة بالنسبة للرأيين واحدة، حيث إن الرأي الثاني ذهب إلى أن هذا الإيصال يستخدم في إثبات عقد الوديعة في مواجهة الطرفين. وهذا الإيصال هو دليل كتابي على حصول الوديعة، ومن المقرر وفق المادة 70/1 من قانون البينات أنه لا يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي، لذلك يلزم إثبات العمليات المتعلقة بالوديعة أو إرجاعها بالكتابة في جميع الأحوال.

(9)(9) فائق محمود الشماع، الإيداع المصرفي، الجزء الثاني، الإيداع غير النقدي، دار الثقافة، عمان، الطبعة الأولى 2011 صفحة 140.

(10)(10) عزيز العكيلي، المرجع السابق صفحة 379.

(11)(11) علي جمال الدين عوض، المرجع السابق بند 779 صفحة 940. أما إذا استلم المصرف من العميل أوراقا مالية لبيعها له وقيد ثمنها في الجانب الدائن من حساب العميل لديه، فتكون حيازة المصرف لهذه الأوراق هي وديعة عابرة تستند إلى عقد الوكالة الذي خول المصرف بيعها لحساب العميل. كما لا تعد عملية إيداع أوراق مالية إذا قصد العميل رهن هذه الأوراق للمصرف للحصول على تسهيلات معينة.

(12)(12) فائق محمود الشماع، المرجع السابق، صفحة 153. وهو يرى أن الرأي الأخير احتياط وأفضل لمصلحة التعامل وشرعيته.

(13)(13) تنص المادة 55 من قانون التجارة على أن (كل التزام تجاري يقصد به القيام بعمل أو بخدمة لا يعد معقودا على وجه مجاني، وإذا لم يعين الفريقان أجرة أو عمولة أو سمسرة فيستحق الدائن الأجر المعروف في المهنة).

(14)(14) بينما هو عقد رضائي في بعض التشريعات كقانون التجارة المصري الجديد لسنة 1999 والكويتي وقانون المعاملات التجارية الإماراتي، حيث يتم العقد بمجرد التراضي ويكون التسليم التزاما على المودع بعد انعقاده.

(15)(15) علي جمال الدين عوض، المرجع السابق، بند 785 صفحة 943.

(16)(16) فائق محمود الشماع، المرجع السابق، صفحة 172 و173.

(17)(17) عبد القادر العطير، الوسيط في شرح القانون التجاري، الجزء الأول، عمان، 1998، صفحة 576.

(18)(18) عزيز العكيلي، المرجع السابق، بند 69 صفحة 382.