الفصل الأول – انعقاد العقد

المطلب الثاني

توافق الإرادتين

الإيجاب والقبول :

يفترض في العقد صدور إيجاب من أحد المتعاقدين ، يتبعه قبول مطابق له من المتعاقد الآخر.

والإيجاب والقبول كل لفظين مستعملين عرفاً لإنشاء العقد ، وأي لفظ صدر أولاً فهو إيجاب والثاني قبول .

وسوف نتكلم أولاً عن الإيجاب ، ثم عن القبول ، ثم نعرض لصور خاصة للقبول في ثلاثة فروع على التوالي :

الفرع الأول

الإيجاب

المراحل التي يمر بها الإيجاب : المفاوضة ، والدعوة إلى التعاقد .

قد يصدر الإيجاب دون أن تسبقه مقدمات كما هو الحال في شراء الصحف ، والخبز ، والمواد الغذائية من السوبر ماركت ، والركوب في وسائل المواصلات ، وغير ذلك من العقود الشائعة أو ضئيلة القيمة .

ولكن هناك طائفة من العقود تسبقها مقدمات ، وهي عادة العقود ذات القيمة الكبيرة أو العقود الهامة كعقد بيع عقار أو سيارة ، أو سفينة .

فقد تسبق الإيجاب مفاوضة بين المتعاقدين إما مباشرة أو عن طريق سمسار مثلاً، لمعرفة مدى استعداد كل طرف لقبول شروط الطرف الآخر فيما يتعلق بقيمة المبيع مثلاً، مشتملاته ، وكيفية دفع الثمن … الخ .

كما قد يسبق الإيجاب دعوة إلى التعاقد عن طريق الإعلان في الصحف أو توزيع نشرات على الجمهور ، فمن يعلن عن بيع سيارة أو منزل أو أي شيء آخر في الصحف دون بيان الثمن ، ومن يعلن عن حاجته إلى عمال تتوافر فيهم شروط معينة ، ومن ينشر إعلاناً أو يوزع نشرة عن بضائعه أو بياناً بالأسعار الجاري التعامل بها ، إنما يدعو غيره إلى التعاقد . وتعتبر الاستجابة للدعوة إلى التعاقد إيجاباً إذا تضمنت العناصر الجوهرية للعقد .

والمفاوضة أو الدعوة إلى التعاقد لا ترتب أثراً قانونياً ، فكل طرف حر في قطع المفاوضة في أي وقت يريد ، وكل دعوة إلى التعاقد يجوز العدول عنها ، ولا يترتب على ذلك أية مسؤولية .

غير أنه إذا اقترن بقطع المفاوضة أو العدول عن التعاقد خطأ تقصيري فإن من ارتكب هذا الخطأ يكون مسؤولاً عن ذلك ، وتكون المسؤولية هنا لارتكاب الخطأ لا لمجرد قطع المفاوضة أو الرجوع عن الدعوة ، طالما ترتب على هذا الخطأ ضرر أصاب المتعاقد الآخر .

مثال ذلك أن يتعاقد المفاوض مع شخص آخر ، ولا يخطر المفاوض الآخر بعدوله في وقت مناسب ، بل يستمر مع ذلك في المفاوضة ، ويتكبد المفاوض نتيجة ذلك مصاريف أو يفوت عقداً آخر ما كان ليرفضه لولا انشغاله بالمفاوضة ، أو أن يثبت أن الطرف الذي عدل لم يكن جاداً ، أو كان عدوله لغير سبب مشروع ، أو كان متعسفاً في استعمال حرية القبول . كصاحب الفندق أو المطعم الذي يفتح أبواب محله لاستقبال النزلاء والزبائن ، إذا رفض من تقدم إليه دون سبب .

شروط اعتبار التعبير إيجابا :

لا يكون التعبير عن الإرادة إيجاباً إلا إذا دل على الرضا نهائياً بالتعاقد على الأمر الذي يعرضه الموجب على غيره . أي أن يكون هذا التعبير باتاً في دلالته على إرادة المتعاقد ، وشاملاً لكل العناصر الجوهرية للعقد المراد إبرامه . وعلى ذلك يشترط لاعتبار التعبير إيجاباً ما يأتي :

  1. أن يكون التعبير باتاً في دلالته على إرادة المتعاقد ، مقتضى ذلك أنه :
    1. إذا تضمن التعبير عن الإرادة شرطاً أو تحفظاً إرادياً محضاً يتوقف تحققه على إرادة من صدر منه التعبير ، كان ذلك مجرد دعوة إلى التعاقد وليس إيجاباً ، مثال ذلك أن يتضمن التعبير عن الإرادة إلى جانب تحديد المسائل الجوهرية ، اشتراط أن يتم الاتفاق على المسائل التفصيلية، كميعاد التسليم، أو ميعاد دفع الثمن ، لانعقاد العقد . فهذا الشرط ينفي نية الارتباط في الحال بالعقد قبل الاتفاق على هذه المسائل .
    2. أما إذا كان الشرط أو التحفظ غير إرادي ، أي لا يتوقف تحققه على محض إرادة من صدر عنه التعبير ، فلا ينفي صفة البت في التعبير ، بل يعتبر إيجاباً معلقاً على شرط . فمن يعرض على آخر توريد سلعة بثمن معين بشرط أن يعدل هذا الثمن طبقاً لتغير الأسعار ، أو يعرض بضاعة بثمن معين ويعلق ذلك على عدم نفاذ الكمية عند القبول ، فإن الإيجاب يكون في هذه الحالة معلقاً على شرط ثبوت الأسعار أو عدم نفاذ الكمية وفي السينما أو المسرح يكون الإيجاب معلقاً على شرط وجود مكان خال .
  1. أن يكون التعبير شاملاً لكل العناصر الجوهرية للعقد المراد إبرامه .

حتى يعتبر التعبير عن الإرادة إيجاباً يلزم أن يتضمن تعيين العناصر الجوهرية للعقد المراد إبرامه ، وهي العناصر الموضوعية التي تحدد ماهية العقد .

فعناصر عقد البيع الجوهرية مثلاً هي المبيع والثمن ، وعناصر عقد الإيجار الجوهرية هي العين المؤجرة ، والأجرة ، وعناصر عقد العمل هي العمل والأجرة … وهكذا .

ويعتبر التعبير الذي يتضمن العناصر الجوهرية إيجاباً حتى لو لم يتضمن شروط العقد كافة، مثل تعيين المبيع والثمن دون الإشارة إلى مكان التسليم ، أو إلى كيفية دفع الثمن نقداً أم بالتقسيط أم مؤجلاً . فإذا اقترن الإيجاب بقبول في هذه الحالة وانعقد العقد ، يرجع إلى القواعد التشريعية المكملة والعرف لتكملة أحكام العقد .

ولا يشترط أن يوجه الإيجاب إلى شخص معين ، بل يجوز أن يوجه إلى شخص غير معين أي موجهاً إلى الجمهور ، إذ تنص الفقرة الأولى من المادة 94 على أن ” يعتبر عرض البضائع مع بيان أثمانها إيجاباً ” وعلى ذلك يعتبر وضع بطاقة تبين ثمن البضاعة المعروضة للجمهور في واجهات المحلات أو في داخلها إيجاباً .

أما إذا لم يتضمن التعبير عن الإرادة تحديد العناصر الجوهرية للعقد فإنه لا يعتبر إيجاباً وإنما مجرد دعوة للتعاقد ، ويدخل في مرحلة المفاوضات التي تسبق الإيجاب .