الفصل الثالث – آثار الحكم

      تقوم آثار الأحكام على فكرتين أساسيتين :

الأولى : أن الحكم يحسم النزاع على أصل الحق المتنازع فيه ؛ فيمتنع على سائر المحاكم – بما فيها المحكمة التي أصدرته – إعادة النظر فيما قضى به .

الثانية : أن الحكم لا ينشئ – كقاعدة عامة – حقوقا للمتقاضين ، وإنما هو يبين ما كان لهم من حقوق نشأت قبل رفع الدعوى وبمقتضى السبب الذي أنشأها . فالحكم لا ينشئ حقا جديدا لم يكن موجودا ، ولا يجدد الحق ، وإنما هو يقويه وينشئ لصاحبه بعض المزايا وفق ما سوف نراه .

      وتسري آثار الحكم – كقاعدة عامة – من وقت صدوره ، وإن كانت المطالبة القضائية تنشئ آثارا هامة هي التي تسري من وقت رفع الدعوى ؛ ويقررها الحكم الصادر فيها .

      ونتكلم في هذين الأثرين في المبحثين التاليين :

المبحث الأول : حسم النزاع على أصل الحق .

المبحث الثاني : تقرير الحق وتقويته .

المبحث الأول

حسم النزاع على أصل الحق

      ينهي الحكم النزاع على أصل الحق إذ تستنفد المحكمة ولايتها بالنسبة لهذا  النزاع  فيخرج  من ولاية المحكمة التي أصدرت الحكم .

      وبصدور الحكم يكتسب حجية الشيء المحكوم به، فيمتنع على سائر المحاكم الأخرى إعادة النظر فيما فصل فيه، إلا إذا طرح النزاع أمامها بشكل طعن في الحكم.

      وعلى ذلك نتناول هذا المبحث في مطلبين :

المطلب الأول : خروج النزاع من ولاية المحكمة التي أصدرته .

المطلب الثاني : حجية الشيء المحكوم به .

المطلب الأول

خروج النزاع من ولاية المحكمة التي أصدرت الحكم

      بصدور الحكم تكون المحكمة قد أدت وظيفتها واستنفدت ولايتها بالنسبة للدعوى، فلا يجوز لها أن تعيد النظر مرة أخرى في ذات النزاع ، أو أن تعدل عما قضت به، أو أن تعدله، أو أن تضيف إليه. فليس للمحكمة التي قضت بالدين على المدين أن تعود فتمنحه مهلة للوفاء ، أو أن تقضي بشمول حكمها بالنفاذ المعجل بعد سبق صدوره غير مشمول بالنفاذ . وهذه القاعدة تسري بالنسبة لسائر الأحكام سواء أكانت منهية للخصومة أم لا ، فالحكم بعدم اختصاص المحكمة لا يجيز لها أن تحكم باختصاصها بعد ذلك . ويستثنى من هذه القاعدة ما يلي :

أولا : الطعن بالحكم بطلب اعتراض الغير أو إعادة المحاكمة ، أو نقض الحكم

      بينت المواد 244 حتى 249 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد الحالات التي يجوز للغير الاعتراض على حكم القاضي الذي يقدم إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المعترض عليه . كما بينت المواد 250 حتى 258 حالات طلب إعادة المحاكمة التي يجوز فيها عرض النزاع على المحكمة التي أصدرت الحكم ، وهذه الحالات وردت على سبيل الحصر فلا يجوز القياس عليها أو التوسع في تفسيرها. كما تقوم المحكمة بإعادة النظر في حكمها إذا أعيد إليها بعد نقض الحكم من محكمة النقض . وسوف نعود لدراسة هذه الحالات في الباب الثاني الخاص بطرق الطعن(1).

ثانيا : تصحيح الحكم

      نصت المادة 183 على أن :

  1. للمحكمة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الخصوم أن تقرر تصحيح ما وقع في حكمها من أخطاء مادية بحتة كتابية أم حسابية دون مرافعة ، على أن يتم التوقيع على التصحيح من رئيس الجلسة وكاتبها .
  2. يجوز الطعن في القرار الصادر بالتصحيح بطرق الطعن التي يقبلها الحكم موضوع التصحيح ، أما القرار الصادر برفض التصحيح فلا يجوز الطعن فيه على استقلال .

      ويتبين من هذا النص أنه يشترط لقبول تصحيح الحكم :

  1. أن يكون الخطأ المطلوب تصحيحه خطأ ماديا بحتا، أي لا يؤثر على كيان الحكم، مثل تصحيح اسم أحد الخصوم إذا كان هناك خطأ في شق منه بشرط ألا يكون هناك شك و اعتراض على حقيقة شخصيته أو صفته ، وتصحيح اسم أحد القضاة الذين اشتركوا في إصدار الحكم . وكذلك تصحيح خطأ في عملية حسابية تمت إثر الحكم بمبادئ معينة .

    أما ما عدا الأخطاء المادية (كتابية أم حسابية) التي تكون قد أثرت في الحكم، كما إذا كان خطأ المحكمة قد وقع في تقدير الوقائع أو تطبيق القاعدة القانونية عليها ، فإن سبيل التظلم منه يكون بالطعن في الحكم بطريق الطعن المناسب .

  • أن لا يكون التصحيح وسيلة لتعديل حكم المحكمة ، فلا يجوز أن تتخذ من طلب التصحيح وسيلة للرجوع عن الحكم الصادر منها ، فتغير في منطوقه بما يناقضه أو يعدل فيه ، كأن ترد الدعوى بعد أن كانت قد حكمت للمدعي بما طلبه أو العكس ، أو تعدل تاريخ حساب الفائدة أو سعرها ، لأن في ذلك مساس بحجية الشيء المقضي .

إجراءات التصحيح

      يحق للمحكمة التي أصدرت الحكم المشوب بخطأ مادي أن تتولى تصحيحه من تلقاء نفسها، وفي هذه الحالة فإنها تجري التصحيح في غرفة المذاكرة وتبلغه للخصوم.

      كما يجوز لأحد الخصوم أن يطلب تصحيح الحكم ، وفي هذه الحالة يقدم طلب التصحيح باستدعاء يبلغ إلى الخصم الآخر ، ويجري التصحيح بدون مرافعة ولكن في جلسة علنية ، ويجري كاتب المحكمة هذا التصحيح على نسخة الحكم الأصلية ويوقعه هو ورئيس المحكمة .

قابلية الحكم الصادر بالتصحيح للطعن

     احتياطا من أن تتجاوز المحكمة سلطتها فتعدل حكمها ، فقد أجاز القانون للخصم المتضرر من التصحيح الطعن في الحكم الصادر بالتصحيح بطرق الطعن الجائزة في الحكم موضوع التصحيح .

      فإذا كان الحكم المصحح يقبل الطعن بالاستئناف ، يجوز الطعن في الحكم الصادر بالتصحيح استئنافا وإن كان ميعاد الاستئناف بالنسبة للحكم المطلوب تصحيحه قد انقضى ، حيث تحسب مدة الاستئناف من تاريخ صدور الحكم بالتصحيح . أما إذا كان الحكم المطلوب تصحيحه صادرا بصفة نهائية قابلا للطعن بالنقض ، فإن الحكم الصادر بالتصحيح يكون قابلا للطعن فيه بطريق النقض فقط .

      أما الحكم الذي يصدر برفض التصحيح فلا يجوز الطعن فيه استقلالا ؛ وإنما تكون وسيلة التظلم منه هي الطعن في الحكم المطلوب تصحيحه ذاته إذا كان قابلا للطعن فيه .

ثالثا : تفسير الحكم

      تنص المادة 184 على أنه ” يجوز للخصوم أن يطلبوا باستدعاء يقدم إلى المحكمة التي أصدرت الحكم تفسير ما وقع في منطوقه من غموض أو إبهام، ويعتبر القرار الصادر بالتفسير متمما من كل الوجوه للحكم الذي يفسره ، ويسري عليه ما يسري على هذا الحكم من القواعد الخاصة بطرق الطعن العادية وغير العادية ” .

      ويتضح من هذا النص أنه يشترط لقبول طلب تفسير حكم :

  1. أن يكون المطلوب تفسيره هو منطوق الحكم .
  2. أن يكون منطوق الحكم مشوبا بغموض أو إبهام أوشك في تفسيره أو أن يحتمل أكثر من معنى ، بحيث يصعب الوقوف على ما قصدته المحكمة من حكمها أما إذا كان منطوق الحكم واضحا فلا يقبل طلب التفسير لانعدام المصلحة .
  3. أن تتوافر مصلحة لطالب التفسير ، فإذا كان الحكم قد تم تنفيذه ؛ ولا يقصد من طلب تفسيره إلا مجرد إرضاء رغبة في نفس طالبه فإنه لا يقبل .
  4. أن يقتصر التفسير على توضيح الغموض الوارد في منطوق الحكم دون إدخال أي تغيير عليه ، فلا يجوز أن يتخذ طالب التفسير من طلبه وسيلة لإدخال تعديل على الحكم . كما لا تملك المحكمة عند تفسير حكمها تعديل قضاءها أو الرجوع عنه أو الإضافة إليه ، وإلا كان قابلا للطعن بالطريق المناسب .

      ويقبل طلب تفسير الحكم ولو بعد رفع الاستئناف عنه ، لاحتمال تمام تنفيذه قبل نظر الاستئناف إذا كان مشمولا بالنفاذ المعجل ، ولاحتمال ضرورة هذا التفسير لإجراء التنفيذ في بعض الأحوال . وهذا لا يتعارض مع حق محكمة الدرجة الثانية في تعديل أو إلغاء قضاء محكمة الدرجة الأولى .

      ويقدم طلب التفسير من الخصوم ، فلا يجوز للمحكمة أن تعمد إلى تفسير الحكم الغامض من تلقاء نفسها ، بل لا بد من أن يتقدم أحد الخصوم بطلب ذلك . ولكن نجد أيضا أن المادة 8 من قانون الإجراء رقم 31 لسنة 1952 تمنح مأمور الإجراء حق تقديم طلب لتفسير الحكم فقد نصت على أنه ” إذا كان في الإعلام إبهام أو فيه ما يحتاج للإيضاح يترتب على مأمور الإجراء قبل إنفاذه أن يستوضح المحكمة رأسا وكتابة عن الجهة المبهمة عليه وأن يوعز إلى الطرفين بمراجعة المحكمة إذا ظهر له في أثناء التنفيذ أن هناك ما يفتقر في حله إلى حكم تصدره … ” . ولا يوجد في قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005 نص مماثل .

      ويقدم طلب التفسير باستدعاء وفق الأوضاع المعتادة لرفع الدعاوى ؛ إلى المحكمة التي أصدرت الحكم سواء كانت محكمة صلح أم بداية أم محكمة استئناف ، وسواء فصلت في الدعوى باعتبارها محكمة درجة أولى أم محكمة درجة ثانية . ولم يشترط القانون أن يتولى التفسير الأعضاء أنفسهم الذين أصدروا الحكم المطلوب تفسيره ، لذلك يمكن أن تقوم بتفسير الحكم هيئة أخرى غير التي أصدرته .

القواعد العامة في التفسير :

      عندما يحتاج الحكم إلى تفسير يجب على المحكمة أن تستمد عناصر التفسير من أجزاء الحكم وخاصة من أسبابه ومن لوائح الطرفين . وفي حال وجود شك يجب أن يفسر الشك لمصلحة المدين . والتفسير الذي تقوم به المحكمة في الحدود التي رسمها القانون لا يخضع لرقابة محكمة النقض .

أثر الحكم في التفسير :

      يعتبر الحكم الصادر بالتفسير متمما من كل الوجوه للحكم الذي يفسره . فليس له كيان مستقل بذاته ، بل يسري عليه ما يسري على هذا الحكم من القواعد الخاصة بطرق الطعن العادية وغير العادية .

      وعند تسليم صورة من الحكم يجب أن تسلم معها صورة من الحكم الصادر بالتفسير .

المطلب الثاني

حجية الشيء المحكوم به

      يفترض القانون أن الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة ويرتب على ذلك أثرا هاما هو اعتبار الحكم حائزا للحجية فيما فصل فيه من مسائل متنازع عليها ، فلا يجوز عرض هذه المسائل على المحكمة مرة أخرى ، وإنما يجوز الطعن في الحكم إذا كان القانون يجيز ذلك .

   وهذا المبدأ معمول به في جميع التشريعات ، لأنه من اللازم وضع حد نهائي للمنازعات ومنع تجديدها إلى ما لا نهاية من ناحية ، ومنع تضارب الأحكام وتناقضها في الخصومة الواحدة من ناحية أخرى .

     وتتضمن حجية الشيء المحكوم به قرينتين قانونيتين :

الأولى : قرينة الصحة ، أي أن الحكم يعتبر صحيحا من ناحية الشكل ؛ إذ يفترض صدوره بناء على إجراءات صحيحة .

الثانية : قرينة الحقيقة ، أي أن الحكم يعتبر عنوانا للحقيقة فيما قضى به ؛ فلا يجوز إهدار هذه الحقيقة في أي مجال ؛ ولدى أية سلطة قانونية في الدولة .

      ويكتسب الحكم الحجية بمجرد صدوره ولو كان ابتدائيا، غير أنها تكون حجية مؤقتة تزول إذا ألغي الحكم بعد الطعن فيه، وتثبت إذا ما أصبح نهائيا بفوات مهلة الطعن، أو بتأييده بعد الطعن فيه. وقد نصت على ذلك المادة 1837 من مجلة الأحكام العدلية بقولها ” الدعوى التي حكم بها وربطت بإعلام لا يجوز رؤيتها وسماعها تكرارا إذا توافرت الأسباب والشروط الموافقة للأصول المشروعة “. وكذلك المادة 105 من قانون أصول المحاكمات الشرعية التي تنص على أن ” الأحكام الصادرة من المحاكم الشرعية مرعية ما لم تفسخ من محكمة الاستئناف الشرعية …(1).

      ويترتب على حجية الشيء المحكوم به أن يمتنع على المحاكم الأخرى أن تنظر فيما سبق الحكم فيه ، ما لم تكن محكمة طعن رفع أمامها الطعن بالطريق القانوني . فإذا رفعت دعوى مبتدأة أمام إحدى المحاكم للفصل فيما سبق لمحكمة أخرى أن فصلت فيه ، فإنه يجوز الدفع أمامها بعدم القبول لسبق الفصل في ذات الدعوى .

      ويشترط للتمسك بحجية الشيء المحكوم به أن يكون النزاع المعروض على المحكمة قائما بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم ، وتعلق النزاع بالحق ذاته محلا وسببا.

      وتبين المادة 92 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية أن الدفع بسبق الفصل في الدعوى تحكم به المحكمة من تلقاء نفسها ، ويجوز الدفع به في أية حالة كانت عليها الدعوى ، أي أنه دفع يتعلق بالنظام العام .

      وتظهر الأهمية العملية لحجية الأمر المحكوم به عندما تعاد نفس المنازعة ؛ بغير اتباع طريق من طرق الطعن ؛ أمام المحكمة نفسها أو أمام محكمة أخرى من نفس درجتها أو من درجة أدنى ، إذ يجوز عندئذ للمدعى عليه في المنازعة الثانية أن يدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها .

      على أن نطاق الحجية نسبي فيما يتعلق بالأشخاص ، بمعنى أن الحجية لا يكون لها أثر إلا فيما بين الخصوم الذين صدر الحكم في مواجهتهم ، ولا تمتد لمن كان خارجا عن الخصومة إلا إذا كان ممثلا فيها . فإذا رفع خالد دعوى إثبات ملكية أرض على سليم ، وحكم له بذلك ، ثم ادعى صالح بأنه مالك الأرض ، فإنه لا يمكن لخالد في هذه الحالة أن يحتج على صالح بأنه مالك لهذه الأرض بموجب الحكم نظرا لأن صالح لم يكن طرفا في الدعوى التي صدر فيها هذا الحكم .

      وتثبت الحجية لمنطوق الحكم فقط ، فهي لا تثبت للوقائع ، مثل كون أحد الخصوم تاجرا ولم تكن هذه الصفة محل نزاع بين الخصوم فإنها لا تحوز الحجية . أما أسباب الحكم فإنها تحوز الحجية إذا كانت مرتبطة بالمنطوق ارتباطا وثيقا بحيث تكون لازمة للنتيجة التي انتهى إليها الحكم في منطوقه ، فهذه الأسباب تتمتع بالحجية باعتبارها مكملة للمنطوق .

      وتختلف الحجية عن القوة (قوة القضية المحكوم فيها)، إذ إنها تثبت للحكم في جميع الأحوال بمجرد صدوره حتى لو كان حكما ابتدائيا . أم قوة الأمر المقضي فهي لا تثبت إلا للأحكام النهائية .

      فالحكم الحائز على الحجية يمتنع إعادة النظر فيه أمام ذات المحكمة أو أمام أي محكمة أخرى من نفس درجتها ، ولكن هذا لا يمنع من إمكانية الطعن فيه بمختلف الطرق . أما الحكم الحائز على قوة الأمر المقضي فلا يجوز الطعن فيه بطرق الطعن العادية ، وإن كان من الممكن الطعن فيه بطرق الطعن غير العادية فالقوة درجة أعلى من الحجية وتحتويها .


(1) يرجع إلى ما بعده ص 756 وما بعدها ، كما يجوز للمحكمة أن ترجع في الأحكام الوقتية التي تصدرها إذا زالت الأسباب التي صدرت من أجلها هذه الأحكام . وإذا قررت المحكمة رد الدعوى شكلا ، يجوز لها أن تنظر فيها إذا رفعت إليها من جديد بشكل سليم .

(1) يرجع في تفصيل هذا الموضوع ، أ. عبد الله خليل حسين الفرا ، الدفع بالقضية المحكمة وأثره على الدعوى القضائية ، رسالة ماجستير مقدمة لكلية الحقوق بجامعة القدس سنة 2001م .