الفصل الثالث – الطلبات المستعجلة

المبحث الأول

شروط الطلبات المستعجلة

      يلزم في الطلبات المستعجلة توفر الشروط التالية:

الشرط الأول : احتمال وجود الحق

      أساس الحماية القانونية في القضاء المستعجل هو رجحان وجود حق، لذلك يصل قاضي الأمور المستعجلة إلى رأي ظني عن طريق تحقيق مختصر وسطحي للادعاء على ظاهر الأدلة والمستندات يستشف منه احتمال وجود الحق محل الحماية القانونية من الناحية الفعلية ، دون أن يطلب من المدعي إثبات الوقائع القانونية لسبب الحق ، فقاضي الأمور المستعجلة ممنوع من التعرض لموضوع النزاع ، وهذا يقتضي منعه أيضا من بحث وفحص مستندات الخصوم المتعلقة بالحق ، ولكن له فحص هذه المستندات بالقدر الذي يتيح له معرفة النزاع وهل هو موضوعي أم مؤقت، وعلى سبيل الاستئناس ، فإذا تجاوز ذلك تجاوزا يمس أصل الحق يكون قد خالف القانون .

الشرط الثاني : الاستعجال أو الخطر من التأخير

      يجب أن توجد خشية من احتمال وقوع ضرر بالحق الموضوعي – على فرض وجوده – إذا لم يتمكن المدعي من الحصول على الحماية الوقتية المطلوبة . وينص قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على ذلك في المادة (102) بقولها ” يجوز لمن يخشى حدوث ضرر محتمل من فوات الوقت أن يقدم طلبا إلى قاضي الأمور المستعجلة يطلب فيه اتخاذ إجراءات وقتية … الخ “.

      ويتحقق ركن الاستعجال كلما توافر أمر يتضمن خطرا داهما ، أو يتضمن ضررا قد لا يمكن تلافيه إذا لجا الخصوم إلى القضاء العادي نظرا لطول الوقت الذي تستغرقه إجراءات التقاضي لدى محكمة الموضوع . ويلزم أن تكون الخشية من الإضرار بالحق المحتمل حالّة وليست محتملة، وقاضي الأمور المستعجلة هو الذي يقدر الخشية موضوعيا بالنظر إلى الظروف الموضوعية، وليس بالنظر إلى اعتقاد المدعي ورغبته أو توافقه مع المدعى عليه على وجودها، أي أن القاضي يقدر توافر صفة الاستعجال في ضوء ظروف كل طلب وملابساته، فهي تنشأ من طبيعة الحق المطلوب حمايته أو من الظروف المحيطة به ومن طبيعة الاعتداء بحيث يستظهرها القاضي من كل ذلك لا من إرادة الخصوم أو رغبتهم في الحصول على حكم سريع ولا من اتفاقهم على اختصاص قاضي الأمور المستعجلة.

          فإذا تبين للقاضي من خلال لائحة الطلب، أو من ظروف واقع الحال أن هناك خطرا محدقا، وأن هناك صعوبة في حماية الحق من خلال الإجراءات العادية، وأن هذا الخطر وشيك الوقوع وليس مجرد احتمال بعيد، يستظهر من ذلك صفة الاستعجال التي يتحقق معها اختصاصه، بالإضافة إلى عدم المساس بأصل الحق. وهو يراعي في ذلك الزمان والمكان والبيئة المرتبط وقائعها بموضوع الطلب المتنازع فيه.  

          ويتوافر وصف الاستعجال بغض النظر عن طبيعة أصل الحق أو نوعه وسواء كان عقارا أم منازعة مدنية أو تجارية، فهذا الوصف يلحق الطلب لا أصل الحق. وللخشية من فوات الوقت مظهران:

المظهر الأول: الخشية من زوال المعالم مع مرور الوقت إذا كان المستدعي في الطلب المستعجل يهدف إلى إثبات بعض الوقائع التي يريد أن يستند إليها فيما بعد في دعوى موضوعية، مثال ذلك أن يقوم شخص بإغراق أرض جاره بالمياه بعد أن يكون أعدها للزراعة، ويرغب صاحب الأرض في إثبات هذه الحالة فورا، وظاهر أن فوات الوقت يؤدي إلى جفاف المياه وزوال معالم الواقعة التي يريد صاحب الأرض الاستناد إليها في طلب التعويض مستقبلا.

والمظهر الثاني: هو الخشية من فوات المصلحة أو ضياع الحق، كما في حالة المستأجر الذي يترك العين المؤجرة بعد أن يخربها أو يتلفها، ففي هذه الحالة لا تزول معالمها بمرور الوقت، ولكن يترتب على البطء في إثباتها تفويت حق المؤجر في الانتفاع بالعين أو تأجيرها للغير. وكما إذا توقف المقاول عن العمل، ويطلب صاحب العمل إثبات حالة البناء وقت توقف المقاول ليقوم بعد ذلك بإكمال البناء.

          ووصف الاستعجال مؤقت عرضة للزوال، ومرور الوقت دون تقديم الطلب المستعجل قد يعتبر تراخيا يهدم هذا الوصف ما لم يكن له ما يبرره، كما إذا كان الخصم يسعى بالفعل إلى تفادي تقديم الطلب المستعجل بصلح أو تحكيم أو تهيئة جو صالح للاتفاق.(1) فيشترط أن يكون التراخي من شأنه أن يفقد الطلب وصف الاستعجال في القضية ذات الخصومة المطروحة للبحث، فمجرد ترك الطلب للشطب أو تراخي السير فيه لا يؤدي بالضرورة إلى زوال صفة الاستعجال عنه، وعلى القاضي أن يبحث من خلال ظروف الطلب والوقائع المطروحة أمامه والحق المراد حمايته عن السبب في تراخي المستدعي في تقديم طلبه المستعجل أو متابعته، ولكن إذا كانت مدة التراخي طويلة فإن ذلك يعني التنازل عن الحق في طلب الإجراء المستعجل والإقرار ضمنا بعدم وجود خطر أو أن الاستعجال قد زال. ويقدر القاضي المدة الزمنية التي تراخى فيها المستدعي في تقديم الطلب المستعجل وأثر ذلك.

          والعبرة في توافر صفة الاستعجال – وفق الرأي الراجح في الفقه- هي بوقت الفصل في الطلب المستعجل، فإذا لم يكن شرط الاستعجال متوافرا وقت تقديم الطلب، ثم توافر هذا الشرط أثناء نظر الطلب، فإن قاضي الأمور المستعجلة يكون مختصا بنظره ولا يمنع اختصاصه أن صفة الاستعجال قد استجدت في الطلب بعد تقديمه ولم تكن قائمة وقت تقديمه، فتقدير قاضي الأمور المستعجلة لأسباب الاستعجال التي تسوغ اختصاصه بنظر الطلب يجب ألا ترتبط وتتقيد بوقت تقديم الطلب بل بتوافر الاستعجال وقت الفصل فيه.

          وعلى ذلك أيضا إذا توافرت صفة الاستعجال عند تقديم الطلب المستعجل، ولكنها زالت وقت صدور القرار، يجب على المحكمة أن تقضي برد الطلب لأنه أصبح مفتقدا لركن أساسي في تكوينه واستمراره.

          كما أنه إذا أصدر قاضي الأمور المستعجلة قراره في الطلب لتوافر صفة الاستعجال، وأثناء مدة الاستئناف زالت صفة الاستعجال، يمكن أن يقدم طلب لذات القاضي الذي أصدر القرار لتعديله أو إلغائه دون حاجة إلى استئناف القرار، وذلك استنادا لتغير الوقائع والظروف التي صدر القرار في ظلها. أما إذا كان القرار قد تم استئنافه فإن محكمة الاستئناف تقرر تعديل أو إلغاء القرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة لتغير الظروف والوقائع التي بني عليها القرار (م 109) .

      أما الضرر الذي يخشى منه فهو محتمل، ولكن يجب أن تتوفر فيه شروط ثلاثة:

  • أن يلحق الضرر بنفس الحق الموضوعي الذي ترفع الدعوى المستعجلة لتحقيق حماية وقتية له .
  • أن يكون وشيك الوقوع وليس مجرد احتمال بعيد .
  • احتمال عدم تلافي الضرر، أي أن لا يكون الحكم الموضوعي المحتمل كافيا لإزالته ، إذ لو كانت الحماية الموضوعية – بصرف النظر عن تأخيرها – كافية ، لا تقوم حاجة للحماية المؤقتة .

الشرط الثالث: أن يكون المطلوب  إجراء وقتيا أو تحفظيا.

          يهدف الطلب المستعجل إلى رد الاعتداء مؤقتا عن الحق المراد حمايته، أو الاحتياط لهذا الاعتداء، لذلك يشترط أن لا يكون من شأن الفصل في الطلب المستعجل المساس بأصل الحق المدعى به من جانب أحد الطرفين أو بالمراكز القانونية للخصوم، ويقصد بأصل الحق كل ما يتعلق بهذا الحق وجودا وعدما، ويشمل ذلك كل ما يمس صحة هذا الحق أو يؤثر في كيانه أو يغير فيه أو في الآثار القانونية التي نظمها القانون أو التي هدف إليها المتعاقدان. وعدم المساس بأصل الحق كشرط لاختصاص قاضي الأمور المستعجلة يتمثل في جملة مواضع، فالطلبات المطروحة على القاضي يجب أن لا تكون طلبات موضوعية تتعلق بأصل الحق كالحكم بالملكية أو المديونية أو الفسخ أو البطلان أو عدم سماع الدعوى لمرور الزمن.

 وفي بحث المستندات له الاطلاع على الوثائق والمستندات المثبتة لأصل الحق ليتأكد بعد أن يبحث بشكل عرضي ظاهر المستندات احتمال وجود هذا الحق، وبناء على ذلك يقرر القاضي بحسب الظاهر اتخاذ التدبير المؤقت بينما يبقى أصل الحق للفصل فيه من محكمة الموضوع،  ولا يجوز له أن يتعمق في بحث المستندات أو يقطع في شأنها برأي حاسم أو يفسرها، بل يبحثها عرضيا أو يتحسسها.

 وفي تسبيب القرار يجب أن لا يستند قاضي الأمور المستعجلة في أسبابه إلى ثبوت الحق أو نفيه، بل يقتصر على ترجيح الاحتمالات دون أن يقطع برأي في أصل الحق، فيستعمل عبارات مثل وحيث إنه يبدو… وحيث إن الظاهر من الأوراق… أو من الظروف.. ولا يجوز له أن يعلل قراره بعبارة ..وحيث إنه ثبت ..لأنه بذلك يكون قد تجاوز اختصاصه. وفي منطوق القرار لا يجوز أن يقرر ثبوت الحق أو نفيه أو إلزام أحد الخصمين بأداء حق على آخر ، بل يقرر اتخاذ إجراء مؤقت تقتضيه الضرورة والعجلة.   

          وتظل للقرار الوقتي الصادر في الطلب المستعجل صفة الوقتية حتى لو ترتب عليه ضرر دائم أو ضرر يتعذر تداركه، كما في حالة القرار بالهدم إذا ما تم الهدم ثم تبين بعد ذلك أمام قاضي الموضوع أن من صدر القرار بالهدم لصالحه لم يكن محقا في طلبه من الناحية الموضوعية، فإن تعذر إعادة الحال إلى ما كانت عليه لا ينفي أن الإجراء كان مع ذلك وقتيا، مقصودا به تدارك الخطر العاجل الذي كان ماثلا أمام قاضي الأمور المستعجلة مع بقاء أصل الحق سليما.(1)

          ويجب توافر الشروط الثلاثة مجتمعة لانعقاد الاختصاص لقاضي الأمور المستعجلة، فلا يغني أي شرط منها عن الآخر، فلو توافر الاستعجال والخطر وطلب من القاضي إجراء وقتي، ولم يكن لدى المستدعي ما يستشف منه احتمال وجود حق له جدير بالحماية كان غير مختص.

 وكذلك لو توافر شرط الاستعجال والخطر وقدم المستدعي مستندات يستشف منها رجحان وجود الحق ولكن تبين أن هناك مساسا بأصل الحق كان القاضي غير مختص مهما بلغت درجة الخطورة.

ولو طلب من القاضي إجراء وقتي ولم يكن في ذلك مساس بأصل الحق ولكن انتفى الاستعجال يكون غير مختص.

 وإذا قدم للقاضي طلب مستعجل، وتحقق فيه ركن الاستعجال أو الخطر، وكان المطلوب فيه إجراء وقتيا أو تحفظيا، ولكن ثار فيه نزاع جدّي يتوقف على الفصل فيه القرار في الطلب المستعجل بالإجراء الوقتي، وكان هذا النزاع الجدّي موضوعيا، فإن اختصاص قاضي الأمور المستعجلة يرتفع أو ينحسر في هذه الحالة ويتعين عليه أن يقرر عدم الاختصاص . فقد يتوافر الاختصاص بنظر الطلب ولكن لا يتوافر الاختصاص بالتقرير فيه، وفي هذه الحالة وجب على القاضي أن يتوقف وأن يقرر عدم اختصاصه، ويتحقق ذلك كما سبق وذكرنا في صورتين : الأولى أن يزول ركن الاستعجال أو الخطر بعد أن كان موجودا في بداية تقديم الطلب، كما لو قدم طلب مستعجل لإثبات حالة ثم تغيب المستدعي والمستدعى ضده وشطب ولم يجدده المستدعي إلا بعد مضي فترة طويلة كفيلة بزوال حالة الاستعجال، فهذا التراخي يزيل الاستعجال. والثانية أن يثور أثناء نظر الطلب نزاع موضوعي جدّي ويكون الفصل فيه ضروريا للحكم في الدعوى.  

حدود اختصاص قاضي الأمور المستعجلة

      يعد القضاء المستعجل جزءا من القضاء المدني، لذلك فإن قاضي الأمور المستعجلة يختص باتخاذ الإجراءات الوقتية في جميع المسائل المدنية والتجارية، ولا يجوز له الحكم باتخاذ إجراءات وقتية تتعلق بحق يدخل النزاع فيه في اختصاص جهة قضائية غير جهة القضاء المدني، كما لو كان من اختصاص القضاء الجنائي أو الإداري أو محكمة خاصة .

ويجب أن يصدر القرار في الطلب المستعجل قبل صدور الحكم الموضوعي

الحائز قوة الشيء المحكوم به في ذات النزاع الموضوعي . فإذا صدر الحكم الموضوعي في أصل النزاع وحاز قوة الشيء المحكوم به ، لا يقبل الطلب المستعجل في هذه الحالة.


(1) د. أحمد المليجي، الجزء الأول ، صفحة 1147 .

(1) د. أحمد المليجي ، الجزء الأول ، صفحة 1157.