الفصل الثالث – النقض

المبحث الثاني

أسباب الطعن بالنقض

يتبين من نص المادتين 225 و 226 السابق ذكرهما أن أسباب الطعن بالنقض التي حددها قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على سبيل الحصر مردها جميعا إلى مخالفة القانون نصا أو روحا، وهذه الأسباب هي:

أولا: مخالفة القانون أو خطأ في تطبيقه أو في تأويله (2)

      ويقصد بالقانون هنا معناه العام، أي كل قاعدة عامة واجبة التطبيق بواسطة المحكمة التي يطعن في حكمها، أيا كان مصدرها، وسواء كانت من النصوص التشريعية أم القواعد العرفية أم غيرها من مصادر القاعدة القانونية. وسواء كانت القاعدة التي تمت مخالفتها قاعدة موضوعية أم قاعدة تتعلق بالإجراءات.

      وتكون مخالفة القانون إما باستبعاد النص الواجب التطبيق أو بإغفال الحكم المطعون فيه إعمال نص من النصوص القانونية الصريحة أو بتأكيد وجود قاعدة قانونية لا وجود لها، أو الحكم بعدم جواز استئناف حكم قابل للاستئناف ، ويشترط أن تكون المخالفة مؤثرة في الحكم.

      أما الخطأ في تطبيق القانون فيكون بتطبيق قاعدة قانونية لا تنطبق على النزاع، أو تطبيقها على نحو يؤدي إلى نتائج قانونية مخالفة لتلك التي يريدها المشرع، أما الخطأ في التأويل فهو إعطاء النص الواجب التطبيق معنى غير معناه المقصود من المشرع بتفسيره تفسيرا لا يتمشى مع الفهم السليم لأحكام القانون، وغالبا ما يكون ذلك في تفسير نص قانوني غامض.

      ويتبين من ذلك أن هذه المصطلحات الثلاثة تعد مترادفات قانونية لمعنى قانوني واحد، هو مخالفة القانون بمعناه العام الذي يشمل القواعد القانونية والإجرائية، وقد ذكرها المشرع حسما لأي خلاف، ولتأكيد هيمنة محكمة النقض على كل ما يتعلق بالقانون.

      ويعد من قبيل الخطأ في القانون، عدم استناد الحكم على أساس قانوني، كأن تحكم محكمة الموضوع بالعطل والضرر دون أن تبين الوقائع التي استندت إليها لتستخلص منها خطأ المدعى عليه، أو تعتبر المدعى عليه تاجرا دون أن تبين الوقائع التي استندت إليها لمنحه هذه الصفة، أو تعتبر رب عمل مسئولا عن الفعل الضار الذي قام به تابعه (عامله) دون أن تبين أن الفعل الضار ارتكب أثناء العمل أو بسببه.

      كما يعد من قبيل الخطأ في القانون تصدي المحكمة للفصل في نزاع لا يدخل في اختصاصها، أو الحكم فيما لم يطلبه الخصوم، أو عدم الحكم فيما طلبوه.

    ويعد من قبيل الخطأ في القانون كذلك، الخطأ في التكييف أي تحديد الوصف القانوني لوقائع الدعوى محل النزاع وتسميتها باسمها القانوني من بيع، وإجارة، وشركة، وقرض … الخ، لتعيين القاعدة القانونية التي تنطبق عليها، لأن التكييف يعد مرحلة أولية لازمة لتطبيق القانون، ويتوقف على سلامته صحة تطبيق القواعد القانوينة.

      ويعد من هذا القبيل أيضا، مخالفة حجية قوة الأمر المقضي، لأن هذه المخالفة لا تعد عيبا قائما بذاته، وإنما ترجع إلى مخالفة القواعد القانونية التي توجب احترام الأحكام الحائزة للحجية بين الخصوم باعتبارها عنوان الحقيقة وقرينة لا تقبل إثبات عكس ذلك(1).

      ويشترط للطعن بالنقض استنادا لهذا السبب ما يأتي:

  1. أن يكون هناك نص قانوني أو قاعدة قانونية من الواجب تطبيقها على النزاع وفق ما تكشف عنه الأدلة الواقعية التي أثبتها الحكم المطعون فيه. أما إذا ترك القانون نفسه الأمر لتقدير القاضي فلا يعتبر الحكم الصادر مخالفا للقانون مهما كانت نتيجة الحكم(2).
  2. أن يكون الحكم قد خالف النص أو القاعدة واجبة التطبيق أو أخطأ في تطبيقها أو في تفسيرها، مهما كان النص قديما طالما أنه ما زال نافذا. كما إذا خالفت المحكمة في حكمها قاعدة إثبات ، فقضت بناء على شهادة الشهود بوجود عقد مع أنه لا يجوز إثباته إلا بالكتابة . وكذلك إذا خالفت قاعدة من قواعد تفسير العقود ، فاستخلصت من العقد معنى يتعارض مع عباراته الواضحة خلافا لحكم المادتين 12و13 من المجلة.
  3. أن تكون المسألة القانونية المدعى وقوع الخطأ فيها أو مخالفة القاعدة التي تحكمها، قد عرضت على المحكمة التي أصدرت الحكم، أو عرضت لها المحكمة من تلقاء نفسها بالتطبيق لأحكام القانون.
  4. أن يكون الحكم المطعون فيه قد استند إلى هذه المخالفة أو التفسير الخاطئ، والعبرة في ذلك ورود المخالفة في منطوق الحكم، فإذا كان منطوق الحكم متفقا وأحكام القانون، لا يكون الحكم جديرا بالنقض حتى لو تضمن الحكم سببا مخالفا للقانون يؤثر فيما انتهى إليه.

      وعلى الطاعن أن يبين في لائحة طعنه النص أو القاعدة واجبة التطبيق، وأوجه المخالفة التي يدعيها. فلا تكفي الإشارة إلى العيوب التي يأخذها على الحكم بصيغة عامة، بل يجب أن يحدد العيب في الحكم بحيث يكون متفقا مع تحديد المشرع لهذا العيب، فيذكر السبب الذي يبرر الطعن، والعيب في الحكم الذي يتطابق مع هذا السبب. وللطاعن أن يبني طعنه على سبب واحد أو أكثر

ثانيا: بطلان الحكم وبطلان في الإجراءات أثر في الحكم(1)

      يقصد ببطلان الحكم كل مخالفة لقاعدة من قواعد الإجراءات التي تنظم إصدار الحكم، أو تحريره، أو النطق به، أو إيداعه، وهذه الإجراءات مما يتعلق بالنظام العام.

      ومثال ذلك: عدم النطق بالحكم في جلسة علنية، وعدم توفر النصاب القانوني لإصدار الحكم، وتوقيع مسودة الحكم المشتملة على منطوقه من عضوين في هيئة ثلاثية، وعدم تسبيب الحكم أو تناقض الأسباب بعضها مع بعض، أو تناقضها مع المنطوق، وصدور الحكم من محكمة غير مختصة ، أو من قاض غير صالح لإصداره.

      أما بطلان الإجراءات المؤثرة في الحكم فيقصد بها كل مخالفة جوهرية في قواعد الإجراءات تؤثر فيه، مثل عدم مراعاة قواعد الدفاع، وعدم اتباع إجراءات الإثبات التي ينص عليها القانون، وعدم احترام نظام الجلسات كعلنية الجلسة وسرية المداولة، ومباشرة الإجراءات أثناء انقطاع الخصومة … الخ.(1)

          ويلاحظ أن البطلان لعيب ذاتي في الحكم يمكن التمسك به بطريق النقض سواء تعلق بالمصلحة العامة أو بالمصلحة الخاصة. أما بطلان الحكم تأثرا ببطلان الإجراءات السابقة فيمكن التمسك به أمام محكمة النقض إذا كان قد سبق التمسك به أمام محكمة الموضوع ولكن هذه المحكمة رفضته طالما أن الطاعن لم يقبل الحكم. أما إذا لم يسبق التمسك بهذا البطلان أمام محكمة الموضوع ، فيجب للتمسك به لأول مرة أمام محكمة النقض أن يكون هذا البطلان متعلقا بالنظام العام ، وأن لا يكون قد صحح بأي سبب من أسباب التصحيح.

          مع مراعاة أنه لا يجوز التمسك بالبطلان بعيب ذاتي في الحكم أو لتعيب الإجراءات إلا إذا كان هذا البطلان يتعلق بحكم ثاني درجة – أي بحكم المحكمة الاستئنافية – فهو محل الطعن بالنقض. فإذا فرض وكان حكم أول درجة باطلا واستندت إليه محكمة ثاني درجة ، فإن الحكم محل الطعن يكون أيضا في هذه الحالة هو حكم ثاني درجة ، ويصدق ذلك على سائر أسباب الطعن بالنقض.(2)

ثالثا: تناقض الحكم مع حكم سابق حاز قوة الأمر المقضي بين الخصوم.

      يمكن رد هذا السبب من أسباب الطعن بالنقض إلى مخالفة القانون بمعناه الواسع، لأن الحكم – كما تقدم – إذا حاز قوة الأمر المقضي كان عنوانا للحقيقة ولا يقبل في ذلك إثبات العكس، لذلك فإنه، ما دام نهائياً، يكون القاعدة القانونية الواجبة التطبيق بالنسبة لما ذهب إليه، فإذا صدر حكم جديد يناقضه مع أن ذات وصفة الطرفين لم تتغير، فإن الحكم الثاني ينقض.

      والتناقض قد يوجد إما بسبب وحدة الطلب الذي فصل فيه الحكمان على نحو مختلف، أو لأن المسألة الأساسية فيهما واحدة رغم اختلاف الطلبين. ومثال ذلك أن يصدر الحكم الأول في دعوى صحة ونفاذ عقد بيع على أساس أن المشتري قد أوفى الثمن ردا على دفع بعدم الوفاء، ويصدر الحكم الثاني في دعوى فسخ نفس العقد على أساس أن الثمن لم يدفع. ومثاله أيضا أن يصدر الحكم الأول بصحة ونفاذ عقد مما يجعل للمحكوم له الحق في ثمار المبيع من وقت البيع، بينما يصدر الحكم الثاني ملزما إياه برد الثمار بوصفه غاصبا.

      ويمكن أن يقع التناقض بين حكمين صادرين في ذات الدعوى عن محكمة واحدة أو عن محكمتين مختلفين، وفي هذه الحالة الثانية يجب أن تكون المحكمتان تابعتين لجهة قضائية واحدة فإذا كانت إحدى المحكمتين تابعة لجهة قضائية أخرى لا يقبل الطعن بالاستناد إلى التناقض بين الأحكام، مثال ذلك أن يصدر أحد الحكمين عن المحاكم العادية، والحكم الآخر عن القضاء الإداري أو المحاكم الشرعية، لأن حل الاختلاف في هذه الحالة له طريق خاص بذلك.

      ويشترط لقبول الطعن بالنقض لهذا السبب توفر الشروط الآتية:

  1. أن يكون الحكمان قد صدرا بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم.
  2. أن يكون الحكمان قد صدرا بالنسبة لنفس الموضوع محلا وسببا، أي أن يكون الحكم الثاني قد تجاهل قوة الأمر المقضي التي يتمتع بها الحكم الأول.
  3. أن يكون الحكم الثاني قد قضى بعكس ما قضى به الحكم الأول على نحو يستحيل التوفيق بينهما، بحيث يتعذر تنفيذهما معا.
  4. أن يكون التناقض في منطوق الحكمين لا في الأسباب التي بني عليها كل منهما.
  5. أن يكون الحكم الأول قد حاز قوة الأمر المقضي، وإلا كان الطعن في الحكم عن طريق الاستئناف لا الطعن بالنقض.
  6. أن يقدم الطعن بالنقض خلال المهلة المحددة في القانون.

هذا ولم يبين قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الفلسطيني الحكم إذا كانت مهلة الطعن بالنقض قد انقضت واكتسب الحكمان المتناقضان الصفة المبرمة، بينما نصت المادة (629) من قانون أصول المحاكمات اللبناني رقم 90 لسنة 1983 في هذه الحالة أنه لا يعتد إلا بالحكم الصادر عن أعلى محكمة منها – وذلك إذا كانت الأحكام المتناقضة صادرة عن محاكم مختلفة. أما إذا صدرت الأحكام المتناقضة – التي أصبحت مبرمة – عن نفس المحكمة أو عن محاكم متساوية في الدرجة فلا ينفذ إلا أحدث الأحكام تاريخا(1). ونرى الأخذ بذات هذا الحكم عندنا.

ومصير الطعن أمام محكمة النقض لا يخلو من أن تحكم محكمة النقض إما بعدم قبول الطعن بالنسبة لأحد الحكمين ، فيكون معنى ذلك أن الحكم النهائي الآخر هو الصحيح وبالتالي يمتنع الطعن فيه بأي طريق. وإما أن تقبل الطعن وتقضي بنقض الحكم الأول أو الثاني ، مما يعني أن الحكم الذي لم ينقض هو الحكم الصحيح. ويجوز لمحكمة النقض أيضا أن تنقض الحكمين معا، وبالتالي يكون على أصحاب الشأن إن أرادوا أن يقيموا النزاع مرة أخرى وبطريقة صحيحة أمام محكمة الموضوع ، إن كان ذلك ممكنا.(2)


(2) نقض مدني 60/2004 تاريخ 18/5/2004 ج 2 ص 639

(1) د. عبد العزيز بديوي، الطعن بالنقض والطعن أمام المحكمة الإدارية العليا،ط 1، دار الفكر العربي، 1970 ، ص 38.

(2) د. رزق الله أنطاكي، ص 770. ، نقض مدني 89/2006 تاريخ 14/2/2007 ج 3 ص 382.

(1) نقض مدني 8/2007 تاريخ 27/3/2008 ج 4 ص 560.

(1) نقض مدني 77/2004 تاريخ 5/7/2004 ج 2 ص 653.

(2) د. أحمد هندي ص 1060.

(1) د. أحمد الهندي أصول المحاكمات المدنية والتجارية ، الدار الجامعية، بيروت، 1989، ص 442.

(2) د. أحمد هندي، أصول قانون المرافعات 2002، ص 1063.