الفصل الثالث – نظر الدعوى ونظام الجلسات

ولا يبقى أمام المدعى عليه سوى أحد دفعين لرد الدعوى:

الدفع الأول: بطلان تبليغ الإخطار العدلي إذا لم يكن التبليغ وفق الأصول، وعليه في هذه الحالة بيان سبب البطلان الذي يدعيه حتى تتحقق المحكمة من صحة هذا الدفع بالتدقيق في ورقة علم وخبر التبليغ للتثبت من توافر البيانات والشروط التي يتطلبها القانون في التبليغ وتقرر فيه في ذات الجلسة.

والدفع الثاني : سداد الأجرة أو عرضها على المؤجر عرضا حقيقيا خلال مدة الإخطار ورفضه استلامها. وعبء إثبات هذا الدفع على المدعى عليه ، ويكون إثبات الوفاء بالأجرة خطيا، أما بالنسبة لعرض الأجرة فإن على المستأجر أن يبين وقت وكيفية عرض الأجرة حتى تتبين المحكمة جدية هذا العرض ووسيلة إثباته، ويمكن إثبات عرض الأجرة بكافة طرق الإثبات باعتباره واقعة مادية. وفي هذا المجال فإن أفضل وسيلة أمام المستأجر في حال رفض المؤجر استلام الأجرة ، هي إيداع مبلغ الأجرة في صندوق المحكمة خلال مدة الإخطار عملا بالمادة 279 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية .

          ويتبين من ذلك أن وضوح لائحة الدعوى واللائحة الجوابية يؤدي إلى سهولة تحديد نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف ، ويمكن القاضي من تحديد وسيلة إثبات نقاط الاختلاف والطرف المكلف بالإثبات ، وقد تكون نقطة الخلاف تتعلق بالقانون ولا تحتاج إلى بينة بل مجرد مطالعة قانونية من الطرفين . وإذا ما مارس القاضي صلاحياته وفق القانون فإنه يملك أن يلزم الخصوم بما يراه في هذا المجال ، ولا يرد القول إن دور القاضي في هذه المسألة هو تكليف الخصوم بتحديد نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف ، فإذا أصر كل منهما على موقفه وتمسك بما ورد في لائحته على القاضي أن يشرع في سماع البينات ، فالقاضي وفق القانون الجديد يملك تحديد النقاط التي تحتاج إلى إثبات ،  ووسيلة إثباتها ، والمكلف بذلك ، من خلال ما ورد في اللوائح المقدمة من الخصوم بما له من دور إيجابي في تسيير الخصومة بما يحقق سرعة الفصل فيها.

ب) تقديم المستندات وحصر الشهود :

      تنص الفقرة الثانية من المادة (120) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد على أنه “ مع مراعاة ما ورد في الفقرة (1) من هذه المادة يتوجب على كل خصم حصر وتحديد بيناته التي يرغب في تقديمها حول المسائل المختلف عليها وتحدد المحكمة مواعيد الجلسات لسماع بينات كل منهما ” .

     وتبين هذه الفقرة أن البينات المطلوب حصرها تتعلق بالمسائل المختلف عليها فقط، وأنه لا حاجة للبينات التي أرفقها الخصوم بلوائحهم لإثبات مسائل تم الاتفاق عليها.  فحصر البينات يشمل البينات الخطية (الأدلة الكتابية) والشفوية (الشهود) .

      وبالنسبة للأدلة الخطية فقد سبق أن رأينا أن المدعي ملزم بإرفاق صورة عن مستنداته الخطية مع لائحة الدعوى، وأن المدعى عليه ملزم بإرفاق صور عن مستنداته الخطية مع اللائحة الجوابية ، ومن البديهي أن هذه المستندات تتعلق بكل ما ورد في لائحة الدعوى واللائحة الجوابية من وقائع ، وحيث تم حصر نقاط الاختلاف بين الخصمين ، فإن على كل طرف أن يحدد ويحصر البينات الخطية المتعلقة بالمسائل المختلف عليها فقط .

أما بالنسبة لإبراز هذه البينات الخطية ، فقدت جرت العادة أن يتم إبراز المستند العرفي كالتقارير الطبية من خلال منظميها ، وعادة ما يعترض الخصم أو وكيله على قبول المستند إذا قدم من خصمه مباشرة ، غير أن هذا الإجراء ليس لازما وليس في القانون ما يوجبه، بل يمكن إبراز هذه المستندات الخطية مباشرة من الخصم أو وكيله، وفي ذلك تقول محكمة التمييز ” … ولا يوجد بالقانون نص يلزم الخصم بإبراز أي مستند بواسطة من نظمه فالمستند هو نفسه الدليل ولا يقلل من قيمته إبرازه من الخصم وليس بواسطة من نظمه “(1).

      ومن حق الخصم وقد حصل على صورة عن هذه المستندات أن يتحقق من صحتها ، وأن يبدي أي دفع بخصوصها وأن يقدم ما يدحض ما اشتملت عليه مما لديه من بينات خطية ، ويعود تقدير قيمة هذه البينات الخطية المقدمة من الطرفين إلى المحكمة .

      أما البينة الشفوية فإن على كل طرف أن يحصر أسماء الشهود الذين يرغب في سماعهم بخصوص نقاط الاختلاف وبيان الوقائع التي سيشهد عليها كل شاهد . وقد نصت المادة ( 125 ) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد على أنه  ” يسري قانون البينات في المواد المدنية والتجارية على إجراءات الإثبات في الدعوى “، وبالرجوع إلى قانون البينات الجديد رقم 4 لسنة 2001 نجد أنه منح المحكمة صلاحيات واسعة في عملية الإثبات .

      وبعد أن يفرغ المدعي (أو المدعى عليه بالنسبة للدفع) من تقديم بيناته ، يكلف المدعى عليه (أو المدعي بالنسبة للدفع) بتقديم بينته بالطريقة ذاتها ، ثم يكون للخصم الذي بدأ في الدعوى( أو أثار الدفع) أن يقدم بينة مفندة(2) . ثم يقدم المدعي ( أو المدعى عليه في الدفع) مرافعته النهائية ، وبعد ذلك يقدم المدعى عليه( أو المدعي في الدفع) مرافعته النهائية ، وتعلن المحكمة ختام المحاكمة .

ج- التصديق على المصالحة

يلاحظ في هذه المرحلة أن الفقرة الثانية من المادة (118) قد نصت على أن    ” للخصوم أن يطلبوا إلى المحكمة في أية حالة كانت عليها الدعوى إثبات ما اتفقوا عليه في محضر الجلسة ويوقع منهم أو من وكلائهم ، فإذا كانوا قد كتبوا ما اتفقوا عليه ألحق الاتفاق بمحضر الجلسة وأثبت محتواه فيه ويكون لهذا المحضر قوة السند التنفيذي وتسلم صورته وفقا للقواعد المقررة لإعطاء صور الأحكام “.

      وقد هدف المشرع من هذا النص إلى تشجيع الخصوم على حل خلافاتهم وقبول المصالحة وتسجيلها حسما للنزاع في المستقبل . ويعد هذا الاتفاق صلحا قضائيا عقد بين الخصوم بأنفسهم يعرضونه على المحكمة للمصادقة عليه. ودور المحكمة بالتصديق على المصالحة هو دور الموثق، إذ تقتصر مهمتها على إثبات ما حصل أمامها من اتفاق وتوثيقه بما لها من سلطة ولائية. بمعنى أن محضر الصلح يأخذ حكم السند الرسمي وهو ما عبر عنه المشرع في المادة 118/2 بالسند التنفيذي . وهو لا يعد حكما ولا يخضع لطرق الطعن المقررة للأحكام ، وإنما يكون قابلا للفسخ كسائر العقود ، كما يمكن الطعن فيه كأي عقد بالطريق العادي بإقامة دعوى بطلان أصلية لأي سبب من أسباب البطلان في العقود. (1) ويكون تفسيره طبقا للقواعد المتبعة في تفسير العقود لا في تفسير الأحكام.

على أنه يشترط للتصديق على المصالحة أن يكون النزاع المعروض على المحكمة جديا وحقيقيا ويستند إلى أدلة واقعية وقانونية، فمن غير المقبول أن يكون نص المادة 118/2 المذكور وسيلة للالتفاف على القانون والحصول على سند من المحكمة لا يستند إلى أساس قانوني يؤيده .(2) كما يجب عدم التصديق على الصلح إذا تضمن ما يخالف النظام العام أو الآداب ، أو ما يضر بمصالح الغير.

ولا يجوز التصديق على الصلح إلا بحضور الخصمين ، لأن القاضي إنما يقوم بمهمة الموثق ولا يجوز توثيق عقد إلا بحضور طرفيه حتى لو كان الطرف الغائب قد قبل التصديق على الصلح في غيبته .  وإذا صدقت المحكمة على الصلح رغم اعتراض أحد الخصوم أو رغم غيبته، فإن هذا الصلح لا يعدو أن يكون ورقة عرفية ولا يعتد بإثباته بمحضر الجلسة ، وللخصم المتضرر أن يرفع دعوى أصلية بعدم اعتبار ما أثبت بمحضر الجلسة أو ما ألحق به سندا تنفيذيا رسميا، أمام المحكمة المختصة وفقا لقيمة الدعوى وليس أمام المحكمة التي أثبتت الصلح إلا إذا كانت هي المختصة ابتداء بالنزاع حفاظا على درجات التقاضي المتعلقة بالنظام العام .(3)

رابعا : إقفال باب المرافعة

      إذا رأت المحكمة أن الدعوى استوفت عناصر تكوين الرأي القضائي وصارت مهيأة للحكم فيها بتقديم مرافعة كل من المدعي والمدعى عليه النهائية ، فإنها تقرر إقفال باب المرافعة وحجز القضية للحكم (م 165/1). وهذا القرار متروك لتقدير المحكمة والغرض منه تثبيت جميع عناصر القضية تمهيدا للفصل فيها . ولذا فإنه يترتب على إصداره عدم جواز تقديم بينات أو دفوع جديدة أو طلبات عارضة . كما لا يجوز سماع أقوال من الخصوم أو تقديم مذكرات .

      غير أن المشرع أجاز للمحكمة في المادة (166) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد ، سواء من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الخصوم أن تقرر فتح باب المرافعة لأسباب جدية وضرورية للفصل في الدعوى . فإذا رأت المحكمة بعد قفل باب المرافعة وخلال المداولة أن مسألة معينة بحاجة إلى مزيد من البحث والتحقيق حتى تتمكن من الفصل في الدعوى تقرر من تلقاء نفسها فتح باب المرافعة لاستكمال التحقيق في هذه المسألة . وكذلك الحال إذا تقدم لها أحد الخصوم باستدعاء لفتح باب المرافعة ووجدت أن لديه أسبابا جدية وضرورية للفصل في الدعوى .

      وبعد إقفال باب المرافعة تدقق المحكمة بينات الطرفين ولا يخلو الأمر من أحد احتمالين:

الاحتمال الأول : أن يقدم المدعي بينته ، ويقدم المدعى عليه بينته . وفي هذه الحالة تقوم المحكمة بوزن البينات لتكوين قناعتها وترجيح بينة على أخرى عملا بالمادة 2 من قانون البينات في المواد المدنية والتجارية رقم 4 لسنة 2001 التي تنص على أنه: على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه ،  فإن رجحت بينة المدعي حكمت له ، وإن رجحت بينة المدعى عليه قررت رد الدعوى ، وإن رجحت بعض بينة المدعي دون بعضها حكمت له بما قنعت به وردت الباقي.

والاحتمال الثاني : أن يقدم المدعي بينته ولا يقدم المدعى عليه أية بينة ، وفي هذه الحالة إذا كانت بينة المدعي كافية لإثبات دعواه وقنعت بها المحكمة قررت الحكم له بما يدعيه . أما إذا كانت بينته غير كافية وعجز المدعي عن إثبات دعواه ، فعلى المحكمة تطبيق المادة 76 من مجلة الأحكام العدلية التي تنص على أن : البينة للمدعي واليمين على من أنكر ,(1) فإن وجدت أن بينة المدعي كافية ومقنعة لإثبات دعواه حكمت وفق ذلك ، وإن تبين لها عدم كفاية البينة لتكوين قناعتها ، يجب عليها أن تفهم المدعي أنه عاجز عن إثبات دعواه وأن من حقه أن يوجه اليمين للمدعى عليه، فإن لم يوجه اليمين أو وجهها وحلفها المدعى عليه تقرر رد الدعوى، وإن نكل المدعى عليه عن حلف اليمين ، تحكم المحكمة للمدعي بطلباته.(2)

          وينبغي على المحكمة في هذه الحالة أن تقرر اعتبار المدعي عاجزا عن الإثبات عند المحاكمة – وليس لدى إصدار الحكم في الدعوى- ليتسنى له تحليف خصمه اليمين ، ذلك لأن حقه في طلب اليمين لا ينشأ إلا بعد أن تقرر المحكمة أن البينات التي قدمها لا تكفي لإثبات الدعوى، فإذا لم تفعل المحكمة ذلك فإن حقه في طلب تحليف خصمه اليمين يبقى قائما، (3)ويمكن التمسك به لدى المحكمة الأعلى.

          فإفهام المدعي أن من حقه توجيه اليمين للمدعى عليه لا يكون إلا في حالة عدم تقديم المدعى عليه أية بينة وعدم قناعة المحكمة بالبينة المقدمة من المدعي ، أما إذا كانت محكمة الموضوع أصدرت حكمها على أساس ترجيح بينة على أخرى وليس على أساس العجز عن الإثبات فإن ذلك يكون غير وارد .(1)

واليمين التي يضطر المدعي لتوجيهها للخصم نزولا على قرار المحكمة القاضي باعتباره عاجزا عن الإثبات لا تمنعه من تمسكه بدلالة البينات المقدمة في الدعوى لدى المحكمة الأعلى ، ولا يعتبر توجيه اليمين في هذه الحالة تنازلا عن البينات التي قدمها المدعي للإثبات


(1) تمييز حقوق 1060/91 مجلة نقابة المحامين لسنة 1994 صفحة 413 .

(2) البينة المفندة هي ما كان يطلق عليه البينة الداحضة في المادة 135/3 من قانون أصول المحاكمات الحقوقية الملغى ، وسميت كذلك لأن المدعي يفند بها ما قدمه المدعى عليه من بينة أي يدحضها = = وفق القانون القديم ، لذلك فإنها تكون محصورة في حدود تفنيد بينة المدعى عليه ولا يجوز أن تشتمل على بينات جديدة لا صلة لها ببينة المدعى عليه .

(1) نقض مدني 85/2007 تاريخ 14/10/2008 ، ج 4 ص 751. ونقض مدني 163/2008 تاريخ 3/11/2008 ج 4 ص 434. بينما كانت محكمة النقض قد قضت باعتبار التصديق على المصالحة حكما صادرا عن المحكمة وأنه قرار قضائي لا ولائي . نقض مدني 19/2003 تاريخ 20/12/2003 ج 2 ص 571، ولكنها عدلت عن ذلك .

(2) نقض مدني 23/2007 تاريخ 18/2/2008 ج 4 ص 415.

(3) أنور طلبه ج 2 ص 118.

(1) وهي تطابق المادة 77 من القانون المدني الأردني رقم 43 لسنة 1976.

(2) تمييز حقوق 227/72 مجلة نقابة المحامين الأردنيين لسنة 1972 ص 1259، ت ح 1488/93 ( ه.ع) ص 1214 لسنة 1995 ( إن عدم تقديم المدعى عليهم أية بينة وعدم قناعة المحكمة بالبينة المقدمة من المدعي يوجب على المحكمة إفهام المدعي أن من حقه توجيه اليمين للمدعى عليهم على الوقائع التي عجز عن إثباتها. ت ح 4/71 لسنة 1971 ص 175، ت ح 215/ 71 لسنة 1971 ص 282 ت ح 12/75 لسنة 1975 ص 1552، ت ح 223/91 لسنة 1994 ص 144، ت ح 601/93 لسنة 1994 ص 1678 . وغيرها كثير.

(3) تمييز حقوق 90/74 مجلة نقابة المحامين لسنة 1974 ص 1103.

(1) تمييز حقوق 78/94 مجلة نقابة المحامين لسنة 1995 ص 289.