الفصل الثاني – إجراءات إصدار الحكم

المبحث الثالث

النطق بالحكم

      تنص المادة 165/2 على أن ” للمحكمة النطق بالحكم فور اختتام المحاكمة أو في جلسة تالية ” . كما تنص المادة 171 على أن ينطق القاضي بالحكم بتلاوة منطوقه ، أو بتلاوة منطوقه وأسبابه ، ويكون النطق بالحكم في جلسة علنية وإلا كان الحكم باطلا .

     والنطق بالحكم هو قراءة منطوقه كاملا بصوت عال في جلسة علنية ، وهذا النص لا يوجب على المحكمة إصدار الحكم في الجلسة التالية مباشرة ، بل أجاز لها أن تؤجل إصدار الحكم مرة ثانية أو ثالثة إذا رأت ذلك ضروريا ، حتى لو لم تذكر سبب التأجيل ؛ لأن مجرد التأجيل يفصح عن سببه وهو رغبة المحكمة في إفساح مجال أطول أمامها تتمكن فيه من التروي وإصدار الحكم بالعناية اللازمة تفاديا من أي زلل .

      وكما يجوز تأجيل إصدار الحكم مرة ثانية ، فإنه يجوز للمحكمة تعجيل النطق به إذا جد سبب يبرر ذلك ، على أن يكون كل خصم قد استوفى دفاعه بتقديم مذكرته المصرح له بتقديمها(1). فمثلا إذا تقرر إحالة أحد القضاة على التقاعد أو نقله أو قبول استقالته قبل ذلك التاريخ المحدد أصلا للنطق بالحكم ، جاز تعجيل النطق به في تاريخ سابق على زوال صفة هذا القاضي ، لأنه لا يكفي وفق ما سوف نراه ، أن يوقع القاضي المذكور على مسودة الحكم عملا بالمادة 169 ، فذلك مشروط باحتفاظه بصفته حتى تاريخ النطق به .

      ويجب وفق المادة 171 النطق بالحكم في جلسة علنية في جميع الأحوال حتى لو نظرت الدعوى في جلسة سرية، وإلا كان الحكم باطلا ، وينطق القاضي بالحكم بتلاوة منطوقه أو بتلاوة منطوقه مع أسبابه ، وهذا البطلان من النظام العام لأنه يتعلق بذات الوظيفة القضائية لمرفق القضاء وما تقتضيه لحسن أدائها. والأصل أن تعتبر الإجراءات قد روعيت وأن الحكم قد صدر في جلسة علنية ولو لم يذكر ذلك في مسودته، فخلو الحكم من أنه صدر في جلسة علنية لا يعني بالضرورة أنه صدر في غير علانية.

          وعلنية النطق بالحكم قاعدة جوهرية تجب مراعاتها تحقيقا للغاية التي توخاها المشرع وهي تدعيم الثقة في القضاء والاطمئنان إليه، ومن ثم يتعين على محكمة الطعن أن تتعرض لذلك ولو من تلقاء نفسها.(1) ويلاحظ أن العلنية تتحقق بالنطق بالحكم في قاعة الجلسة ولو لم يحضر أحد من المتقاضين طالما أن الظروف التي صدر فيها الحكم لم تكن تمنع أحدا من الحضور والاستماع إليه، أي كانت قاعة الجلسة مفتوحة للجمهور.

          ويتعلق حق الخصوم بما ينطق به في الجلسة ، وتقوم قرينة قانونية قاطعة على أن ما تم النطق به هو ما تضمنته مسودة الحكم التي وقع عليها القضاة الذين أصدروه ، وإذا اختلف المنطوق الذي تلي في الجلسة عما تضمنته المسودة كانت العبرة بالمنطوق الذي تلي في الجلسة ، وجب على من يتمسك بوجود هذا الاختلاف أن يسلك في إثباته طريق الطعن بالتزوير أمام محكمة الطعن ، وله إثبات ذلك بكافة طرق الإثبات.

          ولا يلزم أن ينطق رئيس الهيئة بالحكم حتى لو كان حاضرا في الجلسة، إذ يجوز أن يكلف أيا من الأعضاء النطق به ، لأن تلاوة الحكم بمعرفة رئيس الهيئة مجرد إجراء تنظيمي لها العدول عنه وتكليف أحد أعضائها القيام به .

هيئة النطق بالحكم

          تنص المادة 169 على أنه يحضر جلسة النطق بالحكم القضاة الذين اشتركوا في المداولة ، فإذا كانت مسودة الحكم موقعة من هيئة المداولة وتغيب بعضهم فيجوز تلاوته من هيئة أخرى على أن يثبت ذلك في محضر الجلسة.

      الأصل أن يحضر جلسة النطق بالحكم القضاة الذين سمعوا المرافعات واشتركوا في المداولة ووقعوا على مسودة الحكم ، لما في ذلك من الدلالة على أنه قد صدر وفق الرأي الأخير الذي انتهت إليه المداولة فيما بينهم . ولكن إذا تغيب بعض القضاة وقت تلاوة الحكم لعذر ما ؛ وكانت مسودة الحكم موقعة من هيئة المداولة ، جاز أن يحل محله قاض آخر، وبذلك تكون تلاوة الحكم من هيئة أخرى ، وقد اكتفت المادة 169 بأن يثبت ذلك في محضر الجلسة، ولم تشترط ذكر ذلك في الحكم ، ومع ذلك جرى العمل على أن تتضمن نسخة الحكم الأصلية ما يفيد أنه تلي من هيئة غير التي أعدته .  

      والمانع الذي يجيز تلاوة الحكم في غيبة أحد القضاة هو المانع المادي كالمرض أو السفر ،  وهذا المانع لا يحول دون النطق بالحكم ما دام القاضي قد قام بالتوقيع على مسودة الحكم ، فتوقيعه يفيد اشتراكه في إصداره ويتضمن دلالة الإصرار على الحكم .

 أما إذا كان هذا المانع بسبب زوال صفة القاضي – كالنقل أو الاستقالة أو التقاعد أو الوفاة ، أو بوقفه عن العمل بصفة مؤقتة – فهو كما رأينا يوجب إعادة تشكيل هيئة المحكمة بإدخال عضو يحل محل ذلك الذي فقد صفته ، وفتح باب المرافعة من جديد ، لأن من الواجب أن يحتفظ القاضي بصفته حتى صدور الحكم . وهذا المانع يمنع من النطق بالحكم ولو وقع القاضي على مسودته ، إذ يعتبر الحكم – لو نطق به – صادرا ممن ليس له ولاية إصداره. أما ندب القاضي للعمل في غير محكمته فلا يترتب عليه زوال ولايته بمحكمته التي ندب منها، ويكون له الحق في الاشتراك في الأحكام الصادرة في الدعوى التي سمع فيها المرافعة.

      وإذا اختلفت هيئة المحكمة التي نطقت بالحكم عن الهيئة التي أعدته، ولم يوقع المتخلف من أعضاء هذه الهيئة على مسودة الحكم عملا بالمادة 169 ، كان هذا دليلا على أنه لم يشترك في إصدار الحكم ، وكان هذا الحكم باطلا بطلانا متعلقا بالنظام العام ، لأن النظام القضائي يستوجب حتما أن يصدر الحكم ذات القاضي الذي اشترك في المداولة (م 170) .

      ويعتبر الحكم قد صدر من تاريخ النطق به ،  فيخرج النزاع من ولاية المحكمة التي أصدرته ويحوز حجية الشيء المحكوم به ، ويكون قابلا للطعن فيه بالطرق المقررة في التشريع الساري وقت هذا التاريخ كما سنرى لاحقا . وبمجرد صدور الحكم يمتنع على القاضي إعادة النظر فيما قضى به ولو باتفاق الخصوم،  ولا يجوز للمحكمة التي أصدرته أن تتناوله بالتغيير أو التبديل إلا في حالة وقوع خطأ مادي فيكون التصحيح بالإجراءات التي نص عليها القانون .


(1) د. أحمد أبو الوفا ، نظرية الأحكام ، ص 106 و 107 .

(1) د. أحمد المليجي ، ج 3 ص 801.