الفصل الثاني – إجراءات إصدار الحكم

المطلب الثاني

تسبيب الحكم

      يوجب القانون أن تشتمل كل من مسودة الحكم ونسخته الأصلية على أسباب الحكم . ولعل تسبيب الحكم هو أشق المهمات الملقاة على عاتق القاضي ، لأنها تتطلب منه فضلا عن اقتناعه هو بما اختاره من قضاء ، أن يقنع به أصحاب الشأن وكل من يطلع على حكمه بقصد مراقبته(1).

          لذلك بعد أن تسرد المحكمة وقائع الدعوى بإيجاز ما تضمنته لائحتها وبيان طلبات المدعي والإشارة إلى ما قدمه من مستندات وأدلة ، وخلاصة موجزة لدفوع المدعى عليه وأوجه دفاعه الجوهرية ، تبدأ في تسبيب حكمها غير ملزمة بالتكييف الذي أسبغه الخصوم على الدعوى، فتنزل عليها التكييف الصحيح الذي يتفق مع وقائع النزاع ومع الأسباب الواقعية التي هي جوهر حكمها.

          وتستهل المحكمة تسبيب حكمها بتصفية الدفوع التي أبداها المدعى عليه بحسب ترتيب كل منها ، فإذا قبلت أي دفع منها وقفت عند هذا الحد وبنت حكمها عليه دون أن تتصدى لأوجه الدفاع المتعلقة بالموضوع، لأن مناط هذا التصدي عدم قبول أي دفع من الدفوع التي تحول دون المحكمة ونظر الدعوى ، أما إذا وجد أحد هذه الدفوع  واستوفى شروطه القانونية فإن ذلك يحول دون المحكمة ونظر الدعوى بما تضمنته من طلبات .

          فإذا انتهت المحكمة إلى رفض ما أبدي من دفوع ، أو كان الخصوم لم يبدو شيئا منها، تناولت المحكمة أوجه الدفاع الجوهرية لتمحيصها على هدى ما قدم بشأنها من أدلة أو قرائن ، والترجيح بينها للأخذ بالدليل الذي يعتد به القانون  وبما يطمئن له وجدانها ، وعندها تعتد بالواقعة التي تأيدت بالدليل الراجح وتطبق القانون في شأنها، وترتب منطوق حكمها على ذلك. فلو أقام المؤجر دعوى إخلاء لتنازل المستأجر عن الإيجار دون إذن وأقام الدليل على ذلك بشهادة الشهود، بينما نفى المستأجر التنازل بشهادة الشهود أيضا ، توازن المحكمة بين شهادة شهود الطرفين فإن اطمأنت لشهادة شهود المدعي قام الدليل على ثبوت واقعة الدعوى ، وحينها تطبق المحكمة النص المتضمن الجزاء على التنازل عن الإيجار وتقضي في المنطوق بالإخلاء.

أهمية تسبيب الحكم

يقصد بضمانة تسبيب الأحكام :

  1. التحقق من أن القاضي قد اطلع على كل وقائع القضية وجميع المستندات والأوراق المقدمة فيها ، واتصل علمه بما أبداه الخصوم من طلبات ودفوع .
  2. التحقق من أن القاضي قد استخلص الوقائع الصحيحة في الدعوى من واقع إثبات يجيزه المشرع تم صحيحا في مواجهة أصحاب الشأن ، أو من واقع الأوراق المقدمة فيها والأدلة بحسب قوتها التي يمنحها لها القانون .
  3. التحقق من أن القاضي قد فهم ما أحاط بالدعوى من مسائل قانونية ؛ وأنه قد كيفها التكييف الصحيح بعد التحقق من توافر شروطه ، وأنه قد رتب عليها الآثار القانونية الصحيحة .

والقضاء المسبب :

  • يدل على قيام القاضي بما عليه من واجب تدقيق البحث وإمعان النظر لتعرف الحقيقة التي تكشف عنها أحكامه ، وبذلك يسلم من مظنة الشك والشبهات والتحكم والاستبداد .
    • يضفي الاطمئنان إلى نفوس المتقاضين .
    • يمكن محكمة الاستئناف من تقدير الأحكام المطعون فيها ، ويمكن محكمة النقض من مراقبتها حتى تشرف على تطبيق القانون وتقرير القواعد القانونية الصحيحة فيما يختلف فيه من المسائل وتوحيد القضاء بصددها .

معنى تسبيب الحكم وقواعده الأساسية :

      يقصد بأسباب الحكم الأدلة الواقعية والأسانيد القانونية التي بنت عليها المحكمة حكمها . ويلزم أن تكون الأدلة الواقعية كافية ؛ ومنطقية ؛ ومستمدة من إجراءات الخصومة . أما بالنسبة للأسانيد القانونية فإن على المحكمة أن تطبق القاعدة القانونية التي تتفق مع الوصف السليم لوقائع الدعوى ، وتفصيل ذلك :

  1. يجب أن تكون الأدلة الواقعية كافية لحمل الحكم ، أي أن يكون اقتناع القاضي بالواقعة الأساسية للحكم بناء على تحقيق كاف ومنطقي لها من خلال إجراءات الخصومة. بمعنى أن يبنى الحكم على أسباب واضحة محددة،  يبين فيها القاضي الوقائع التي يستند إليها الحكم والأدلة التي أقنعته بثبوتها ، وتدل على أن القاضي بحث وقائع الدعوى بحثا دقيقا وكون رأيه فيها . وتكون هذه الأدلة من شأنها أن تسوغ النتيجة التي انتهت إليها ، وأن يورد أسبابا تبرر رأيه بالنسبة لكل طلب أو دفع أو دفاع جوهري مما أبدي أمامه أيا كان نوع الطلب أو الدفع ، وما يجب على المحكمة النظر إليه من تلقاء نفسها دون دفع من الخصم كما لو تعلق بالنظام العام. ويكفي أن تورد المحكمة سببا واحدا للرد على أكثر من ادعاء ما دام هذا السبب كافيا لدحضها، أو سببا واحدا لعدة قرارات ما دام كافيا لحملها ،  ويمكن أن يستخلص منها ولو بطريقة ضمنية الرد على الحجج والدفوع والمستندات والأقوال المقدمة من الخصوم .

    ويجب أن يكون التسبيب جديا ، فلا يكفي أن تقرر المحكمة ثبوت وجود الواقعة أو عدم وجودها دون أن تبين كيف ثبت لها ذلك بأدلة مما يصح قانونا الأخذ بها، أو أن تبدي أسبابا مبهمة أو غامضة أو مجملة أو ناقصة أو مضطربة ، مثل عبارات : إن الدعوى قد أقيمت على أساس صحيح، أو إنها فاسدة ، أو إن دفوع المدعى عليه ظاهرة البطلان ، أو إن المدعي محق فيما يدعيه ، أو غير ذلك من العبارات العامة التي تعجز معها محكمة النقض عن مراقبة تكييف الوقائع وسلامة تطبيق القانون عليها.(1)

 ولكن ليس معنى هذا أن الأسباب يجب أن تكون مفصلة ، بل يكفي لسلامة الحكم أن يكون مقاما على أسباب تستقيم معه ولو أوجزت ما دامت تفي بالغرض منها ، فلا تلتزم المحكمة  أن تتعقب حجج الخصوم في جميع الأقوال والمستندات والحجج التي قدموها ومناقشتها جميعا ثم تفنيدها الواحد بعد الآخر ، بل يكفي أن ترد على أوجه دفاع الخصوم الجوهرية وما تنطق به مستنداتهم وأوراقهم الهامة التي لم تعتمد عليها المحكمة ، وكثيرا ما تذكر في الحكم أسباب وحجج عامة تصلح في الرد على جميع ما قدمه الخصوم من أدلة وقرائن .

ويجوز إغفال الرد على دفاع غير جوهري أو ظاهر البطلان،  أو طلب غير جائز تقديمه للمحكمة،  أو الإجابة على مستند غير هام ، كما أن إغفال الفصل في دفع يستخلص منه رفض هذا الدفع بصورة ضمنية . على أنه يشترط أن تشتمل أسباب الحكم على ما يبرر القضاء الضمني في هذا الدفع وإلا اعتبر الحكم فيه باطلا ، واعتبر الحكم في الموضوع مبنيا على إجراء باطل إذا كان مبنيا عليه بالفعل .

أما إذا أغفلت المحكمة في أسباب حكمها ومنطوقه الفصل في بعض الطلبات الموضوعية ، فإنه يجوز لصاحب المصلحة أن يطلب باستدعاء يقدم إلى المحكمة التي أصدرت الحكم النظر في الطلب والحكم فيه ، ويعتبر الحكم الصادر في الطلب متمما للحكم الصادر في الدعوى . (م 185)

وإذا استند الخصم في إثبات واقعة معينة إلى مستند منتج في الدعوى، وجب على المحكمة أن تتعرض لذلك وتقول كلمتها في دلالة هذا المستند على إثبات تلك الواقعة دون حاجة إلى ذكر نصه ، بل يكفي الإشارة لدلالته متى كانت واضحة وظاهرة يمكن للمحكمة الوقوف عليها، فإن لم تفعل واكتفت بالإشارة إليه دون التحدث عن دلالته ، وكان قد تضمن دفاعا جوهريا قد يتغير به وجه الرأي في الدعوى، فإن حكمها يكون مشوبا بالقصور المبطل. أما إذا لم يتضمن المستند دفاعا جوهريا فإن طرحه والالتفات عنه لا يعيب الحكم.

كما لا يلزم ذكر أسماء الشهود ونصوص أقوالهم ؛ بل يكفي ذكر مضمونها ، متى كان ما استخلصه الحكم من أقوال الشهود غير مناقض لما هو ثابت في محضر التحقيق .

  • يجب أن تكون الأسباب منطقية ، فحتى يكون منطوق الحكم مبنيا على أسبابه يجب توافر رباط منطقي وثيق بينهما . بمعنى أن تؤدي الأدلة التي يستند إليها الحكم إلى النتيجة التي انتهى إليها بحيث يكون هناك اتساق بين منطوق الحكم وأسبابه . وعلى القاضي تدوين طريق ثبوت الأدلة حتى تتمكن محكمة الطعن من مراقبة قضائه .

أما إذا كان يستحيل عقلا استخلاص الواقعة التي اعتمدها الحكم من الدليل ، أو كان هناك تناقض بين أسباب الحكم بحيث يصبح خاليا من الأسباب التي تبرره ويعد باطلا ، أو تناقض منطوق الحكم مع أسبابه كما إذا قضت المحكمة على المدعى عليه بالتعويض عن حادث ضار وجاء في أسباب حكمها أن المدعي هو وحده المسؤول عما أصابه من ضرر ، فإن الأسباب لا تؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها الحكم ، وبالتالي فإن الحكم يكون معيبا واجب الفسخ . على أنه يجب للقول بوجود تناقض بين أسباب الحكم ومنطوقه النظر إلى ما استند إليه الحكم وليس إلى العبارات التي ترد في الحكم أثناء سرد دفاع الخصوم ولو حدث السرد على نحو يوحي باقتناع المحكمة به.  

أما الأسباب الزائدة التي لا حاجة بالحكم إليها فإنها لا تؤثر في صحته ولو كانت خاطئة ، فالطعن في الحكم بمخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه لا يجدي إلا إذا كان الحكم ذاته قد بني على هذا الخطأ أو تلك المخالفة . فذكر تعبير خاطئ في أسباب  الحكم لا يفسده إذا لم يؤثر فيه .

  • يجب أن يستمد الحكم أسبابه من وقائع الدعوى، وأن يستند إلى أدلة الإثبات المقدمة من الخصوم في الدعوى ، وأن تبين المحكمة ماهية البينات المعالجة والواقعة المستخلصة منها، وانسجام قرارها مع تلك البينات والوقائع بشكل يمكن محكمة النقض من بسط رقابتها على ما توصلت إليه محكمة الموضوع ، (1) فلا يجوز أن يقضي القاضي بناء على معلوماته الشخصية التي تصل إلى علمه بصدد وقائع الدعوى أو مدى ثبوتها وصحتها عن غير الطريق المقرر والمرسوم لنظر القضايا ، أو يستند إلى واقعة لا سند لها في أوراق الدعوى ، أو على خلاف الثابت في الأوراق والقرائن دون سبب يذكر .

      وإذا استندت المحكمة إلى عدة مصادر يجب عليها أن تبين ماهية ما استمدته من كل مصدر،  فليس للمحكمة أن تقتصر في أسبابها على الإشارة إجمالا إلى مستندات الخصوم ومذكراتهم دون بيان مؤداها مما يتعذر معه تعيين الدليل الذي كونت منه المحكمة قناعتها بوجهة نظرها حتى يمكن الوقوف على ما أثير حوله من دفاع لا يؤثر فيه، والتحقق من أنه من الأدلة التي يصح قانونا بناء الحكم عليها.

وعند استخلاص وقائع الدعوى يجب على المحكمة أن تراعي :

  • احترام القواعد الموضوعية في الإثبات التي تحدد طرق الإثبات والأحوال التي يجوز فيها سلوك كل طريق منها ؛ والشروط اللازمة لقبول الإثبات به، وقوة الدليل المستفاد منه ، والخصم المكلف بالإثبات .
  • احترام القواعد الإجرائية عند سلوك سبل الإثبات المختلفة الواردة في قانون أصول المحاكمات والمتعلقة بإجراءات الإثبات ، بحيث يتم اتخاذ إجراءات الإثبات في مواجهة الخصوم .
  • وجوب تسبيب كل حكم يصدر بصورة صريحة أو ضمنية في طلب أصلي أو احتياطي أو عارض ، أو في دفع موضوعي أو شكلي أو في دفع من الدفوع بعدم القبول ، متى قدم الطلب أو الدفع إلى المحكمة تقديما صحيحا ولم يتنازل من قدمه عن التمسك به صراحة أو ضمنا .
    • إعمال القاعدة القانونية على ما ثبت من وقائع الدعوى ، وفق الوصف المقرر لها في القانون ، دون أن يعتد بتكييف الخصوم لها إذا كان خاطئا لا يتمشى مع القانون (عن جهل أو عمد). فالقاضي وحده هو الملزم بإعمال القانون وتطبيقه تطبيقا صحيحا في حدود الوقائع الثابتة ، وفي حدود طلبات الخصوم ودفوعهم . وفي ذلك تقول محكمة النقض ” إن تحديد الأساس القانوني للدعوى وتكييفها يعود لمحكمة الموضوع على ضوء الوقائع المطروحة وهي غير مقيدة بوصف الخصوم لهذه الوقائع”. (1)

ومن أهم القواعد الأساسية في التكييف ما يلي:

  • يجب أن يكون تكييف الدعوى وفق الوصف المقرر لها في القانون، ولا يعتد بتكييف الخصوم لها إذا كان خاطئا لا يتمشى مع القانون .
  • يجب أن يكون التكييف في حدود طلبات الخصوم ودفوعهم. والعبرة بحقيقة المقصود من طلبات الخصوم لا بالألفاظ التي صيغت بها الطلبات، لذلك يجوز أن تعتبر الدعوى من دعاوى استرداد الحيازة ولو كان المطلوب لفظا هو منع التصرف أو العكس . وإنما لا يجوز للمحكمة أن تعتبر الدعوى التي رفعت بطلب الملكية من دعاوى الحيازة .
  • تعتبر القواعد القانونية الصرفة قائمة في الدعوى ومن عناصرها،      وتطبق المحكمة القاعدة القانونية على الدعوى من تلقاء نفسها وبغير حاجة إلى التمسك بها من جانب صاحب المصلحة . فبعد أن يدلي الخصوم بطلباتهم ودفوعهم وأسانيد هذه وتلك ، تستخلص المحكمة الصحيح من وقائع الدعوى ، ومن ثم يجب عليها أن تأخذ عن القانون القاعدة الواجبة التطبيق أخذا صحيحا  ولو لم يشر الطالب إلى نص القانون الواجب التطبيق – وهو لا يلزم بهذا – لأن وظيفة المحكمة أن تعمل حكم القانون ، ولأن هذا يستشف ضمنا من سائر طلبات الخصوم ودفوعهم .
  • العبرة بصدور الحكم موافقا للقانون ولو لم تذكر فيه القاعدة القانونية التي بني عليها. فإذا قضت المحكمة بإسقاط الخصومة وبنت حكمها على أن هذه الخصومة قد وقف السير فيها ستة أشهر بإهمال المدعي، فإن هذا الحكم يكون صحيحا سليما دون حاجة إلى ذكر القاعدة القانونية التي تقرر إسقاط الخصومة إذا وقف السير فيها مدة ستة أشهر ودون حاجة إلى ذكر شروط إعمال هذه القاعدة، متى كانت قد احترمت تلك الشروط.
  • لا يعيب الحكم إغفاله ذكر مواد القانون التي طبقها على وقائع الدعوى ، أو الخطأ في ذكر رقم النص القانوني الواجب التطبيق ، متى كانت النصوص الواجب إعمالها مفهومة من الوقائع التي أوردها ، ومتى كان المفهوم من وقائع الدعوى أن النص المقصود إعماله هو النص الصحيح .
  • العبرة في تكييف الدعوى بتوخي معاني القانون لربط معاني فهم الواقع بها ، فلا يلزم القاضي عند تكييفه لوقائع الدعوى باستعمال ذات الألفاظ والعبارات التي أوردها القانون للتعريف بالقاعدة القانونية أو لتحديد شروطها أو أركانها أو عناصرها أو معانيها ، فالعبرة في تكييف الوقائع على معاني القانون .
  • يجب أن ترد الأسباب في ورقة الحكم، فلا يجوز أن يشير إلى أسباب واردة في أحكام أخرى ، ولكن يجوز للحكم أن يحيل في أسبابه إلى حكم سابق صدر بين الخصوم أنفسهم في ذات الدعوى ، كأن تحيل محكمة الاستئناف إلى أسباب الحكم الابتدائي . كما يجوز أن تحيل إلى حكم صدر في دعوى أخرى طالما ضم هذا الحكم إلى أوراق الدعوى .

القصور في التسبيب :

      تنص المادة 175 على أن ” القصور في أسباب الحكم الواقعية …. يترتب عليه البطلان ” .

          يجب أن يكون تسبيب الحكم تسبيبا حقيقيا كافيا لحمله حتى يعلم المحكوم عليه بالأسباب التي أدت إلى خسارته ويقوم بدراستها ، فإن تبين له صحتها قبل الحكم، وإلا طعن فيه ، كما أن الأسباب الواضحة والكافية تمكن محكمة الطعن من مراقبة تطبيق القانون تطبيقا سليما ، لذلك إذا شاب الحكم عيب نال منه كان باطلا . وأهم عيوب التسبيب هي :

1-خلو الحكم من الأسباب ، مثال ذلك أن يتمسك الخصم بصورية عقد البيع الصادر من مورثه لوارث آخر وبأنه يخفي وصية ، فلا خلاف في هذا الدفع بأن البيع صادر من المورث ولكن نقطة الخلاف أنه في حقيقته مضاف إلى ما بعد الموت فيأخذ حكم الوصية ، ويكون على المحكمة التحقق ما إذا كان البيع صدر منجزا أم مضافا إلى ما بعد الموت وتقضي في الدعوى على هدى ذلك . فإن لم تحقق هذه الصورية واكتفت في رفض الدفع بالصورية بالقول بأن عقد البيع صادر من المورث ، فإن تسبيب الحكم فيما يتعلق بهذا الدفع يكون مشوبا بالقصور المبطل .(1)

2- التسبيب الجزئي ، بمعنى أن تتعدد طلبات الخصوم ودفوعهم ، فتسبب المحكمة بعضها وتترك بعضها الآخر بدون أسباب ، وتشكل هذه الدفوع دفاعا جوهريا قد يتغير به وجه الرأي في الدعوى، كما لو طعن المحكوم عليه ببطلان تبليغه ولم تلتفت المحكمة إلى هذا الدفع وأصدرت حكمها، فإن الحكم في هذه الحالة يكون مشوبا بالقصور في التسبيب.(2

3- المسخ ، بمعنى تفسير المحكمة ما تضمنته نصوص المستندات المقدمة في الدعوى عكس دلالتها، مثال ذلك أن يعلق العقد على شرط فاسخ مؤداه انفساخ العقد بتحقق الشرط، ومع ذلك تفسره المحكمة على أنه شرط واقف وتلزم الخصم بتنفيذ العقد وترفض الفسخ .

4- التناقض ، سواء كان هذا التناقض بين أسباب الحكم ومنطوقه ، أو بين بعض الأسباب وبعضها الآخر ، كأن تقرر المحكمة التزام المدعى عليه بالتعويض عن فعل ضار ، وأن الفعل يرجع إلى خطئه وحده ، بينما تقرر في مكان آخر أن المدعي مخطئ لأن تصرفه لا يخلو من الرعونة التي لولاها لأمكن تفادي الضرر. ويترتب على تناقض الأسباب بعضها مع بعضها الآخر أن تتماحى مما يوجب استبعادها ويصبح الحكم خلوا من الأسباب. ولا يجوز للخصم الذي صدر الحكم لصالحه أن يطلب الاكتفاء بالأسباب التي تحمل المنطوق واستبعاد الأسباب التي تناقضه ، وعلى محكمة الاستئناف أن تقضي ببطلان الحكم المستأنف وتصدر حكما جديدا مستقلا عن الحكم المطعون فيه.  غير أن التناقض لا يتحقق إلا إذا كان قائما بين الأسباب المرتبطة بالمنطوق ارتباطا وثيقا بحيث لا تقوم له قائمة بدونها . أما تناقض الأسباب الكافية لحمل المنطوق مع أسباب زائدة لو استبعدت لاستقام الحكم بدونها، فإن ذلك لا ينال من الحكم . كما لا يترتب البطلان لوقوع تعارض بين الأسباب ومحضر الجلسة ، إذ يعتد في هذه الحالة بما جاء في أسباب الحكم .

5- الفساد في الاستدلال، بأن تستخلص المحكمة نتيجة معينة من واقعة ليس من شأنها أن تؤدي إليها إلا احتمالا ، إذ قد تسفر تلك الواقعة عن هذه النتيجة وقد لا تسفر عنها، وتقيم المحكمة قضاءها على هذا الاستخلاص وهو استخلاص فاسد، بينما كان يجب أن تقيم قضاءها على القطع واليقين وعلى أسباب لا تقبل التأويل ، فيكون قضاؤها في هذه الحالة مشوبا بالبطلان لفساده في الاستدلال.

6- الإبهام والغموض ، وذلك عندما ترد أسباب الحكم بعبارات عامة خالية من الأسس التي من شأنها إقامة المنطوق بحيث تعجز محكمة الطعن عن إجراء رقابتها على تطبيق القانون ، كما إذا لم تتمكن المحكمة من أن  تتبين ما إذا كان الحكم قد بني على أمور تتعلق بالوقائع أم بني على مسائل قانونية ، أو لم تتمكن من استظهار القاعدة القانونية التي أخذ بها الحكم لتستبين ما إذا كان طبقها تطبيقا سليما أم أخطأ في تطبيقها. كقول المحكمة إن المدعي أثبت ما يدعيه من ملكية العين المتنازع عليها دون أن تبين الأدلة التي استندت إليها وكيف أنها تفيد الملكية ، وقولها حيث إن المدعى عليه قد عجز عن إثبات براءة ذمته دون أن تناقش الأدلة التي قدمها وتبين عدم كفايتها لإثبات براءة ذمته ، وقولها حيث إن مزاعم المدعي لا أساس لها من الصحة أو أن طلب المدعي لا يستند إلى ما يبرره دون أن تمحص الأدلة التي بنى عليها هذه المزاعم .. وغير ذلك من الأقوال التي تنطوي على قصور مخل ينحدر إلى درجة عدم التسبيب.

7- مخالفة الثابت في الأوراق ، حيث يجب على المحكمة عند إصدار الحكم الاطلاع على أوراق الدعوى والقضاء وفقا لما تضمنته من أدلة وإقرارات ومستندات ومذكرات وتقارير الخبراء وما ثبت في محاضر الجلسات ، فإذا أغفلت المحكمة الاطلاع على الأوراق وأغفلت الرد على مستند هام لم يختلف الخصوم على دلالته وقضت على خلاف الثابت فيها فإن الحكم يكون مشوبا بالقصور المبطل .(1)

ويفيد نص المادة 175 أن القصور المبطل ينحصر في أسباب الحكم الواقعية ، وهي التي تتعلق بوقائع النزاع . والحكم الباطل يجوز الطعن فيه بطرق الطعن الجائزة قانونا، كما يجوز استئنافه على سبيل الاستثناء عملا بالمادة 203 ولو كان صادرا بصفة نهائية من محاكم الصلح ، ويجوز الطعن فيه بالنقض إذا كان صادرا من محكمة الاستئناف. فإذا اكتسب الحكم الباطل الدرجة القطعية انقلب صحيحا ولا يجوز طلب إبطاله بدعوى أصلية ، لأن هذه الدعوى تتناقض مع مبدأ القضية المقضية .

 ويقتصر التمسك بالقصور على الخصم الذي أغفلت المحكمة الرد على دفاعه، ومن ثم لا يجوز للخصم الآخر أن يتمسك بذلك . وعلى الطاعن بالنقض إذا نعى على الحكم قصوره في الأسباب الواقعية أن يبين في الطعن المقدم منه مواطن القصور ، فهذا شرط شكلي لصحة الطعن على الحكم بالقصور حتى تتمكن المحكمة من ممارسة الرقابة ، وإلا كان الطعن جديرا بالإلتفات عنه .

      أما القصور في أسباب الحكم القانونية فإنه لا يؤدي إلى بطلان الحكم وإنما يجعله مشوبا بالخطأ في تطبيق القانون . والخطأ في تطبيق القانون كسبب للطعن بالنقض هو الخطأ الذي يشوب منطوق الحكم دون أسبابه ، أي الخطأ الذي يبنى عليه الحكم . ولقصور الأسباب القانونية عدة صور ، فقد يرجع إلى تطبيق نص قانوني غير النص واجب التطبيق ، أو تجاوز النطاق الذي حدده المشرع لسريان النص القانوني عند تطبيقه على واقعة النزاع، أو عدم تكييف الواقعة قبل تطبيق النص عليها، أو إعطاءها وصفا قانونيا غير صحيح ، وفي جميع هذه الحالات لا يؤدي القصور في الأسباب القانونية إلى بطلان الحكم ما دامت النتيجة صحيحة ، بل تمارس محكمة النقض دورها في رقابة محكمة الموضوع وتستكمل أسباب الحكم القانونية أو تصحح الأسباب القانونية الخاطئة ولا تنقض الحكم إذا كان سليما في النتيجة.  

وإذا كانت أسباب الحكم الواقعية سليمة يعد الحكم صحيحا ولو لم تذكر فيه القاعدة القانونية التي طبقت بصدده .  فإذا كانت أسباب الحكم الواقعية سليمة صحيحة، وكانت النتيجة التي انتهت إليها تخالف القانون وغير متمشية معه ، فإنه يكون مشوبا بخطأ في تطبيق القانون ولا يكون باطلا ، سواء ذكرت أسباب قانونية خاطئة أم لم تذكر أسباب قانونية على الإطلاق . فالمادة 175 لم تنص على بطلان الحكم المشوب بقصور في أسباب الحكم القانونية ، ولا بطلان دون نص . فضلا عن أن القول بالبطلان في هذه الحالة يؤدي إلى اعتبار جميع الأحكام المشوبة بخطأ في تطبيق القانون باطلة في ذات الوقت ، وهذه نتيجة غير مستساغة(1).

      وإذا كان هناك قصور في أسباب الحكم الواقعية وفي أسبابه القانونية أيضا ، فإن الحكم يكون باطلا ؛ ويكون مشوبا بخطأ في تطبيق القانون في الوقت ذاته .

      وتبدو أهمية التفرقة بين الحكم الباطل والحكم  المشوب بخطأ في تطبيق القانون من ناحية طرق الطعن الجائزة بالنسبة لكل منهما ، فالحكم الصادر من محكمة الصلح في حدود نصابها النهائي يجوز الطعن فيه بالاستئناف على سبيل الاستثناء وفق المادة 203 ، والطعن فيه بالنقض وفق المادة  (226/1)، إذا كان باطلا أو مبنيا على إجراء باطل ، ولا يجوز الطعن فيه إذا بني الحكم على مخالفة أخرى للقانون .

          ومتى كانت أسباب الحكم الواقعية صحيحة سليمة ، وكانت النتيجة التي انتهى إليها تتمشى مع نصوص القانون ، وكانت القاعدة التي أخذ بها هي التي طبقت على الوقائع الثابتة ، فإن الحكم يكون صحيحا سليما لا مطعن عليه .


(1) د. أحمد أبو الوفا ، نظرية الأحكام، ص 189.

(1) نقض مدني 53/2007 تاريخ 24/9/2008 مجموعة المبادئ ج 3 ص 379.

(1) نقض مدني 194/2008 تاريخ 30/12/2008 مجموعة المبادئ ج 4 ص 231.

(1) نقض مدني 14/2006 تاريخ 8/7/2007 ج 3 ص 314.

(1) نقض مدني 283/2005 تاريخ 9/4/2006 ج 3 ص 75 وقد جاء فيه: إذا لم تعالج محكمة الاستئناف سببي الاستئناف يكون حكمها مشوبا بالقصور في التعليل والتسبيب.

(1) نقض مدني 106/2007 تاريخ 30/10/2008 ج 4 ص 397. حيث جاء فيه: لما كان الطاعن قد أثار في مرافعته الختامية أمام محكمة الدرجة الأولى أنه وقع على الاتفاقية المؤرخة في 28/8/2004 خوفا على مصدر رزقه ورغبته في الحفاظ على عمله وتمسك بالتلازم بين بندي هذه الاتفاقية إلا أن المحكمة لم تلتفت إلى هذه المسألة …. فقد كان على محكمة الاستئناف أن تتصدى لهذه المسألة وتبين أثر سلوك المطعون ضده ( المستأنف ضده) والتزامه بإعادة الطاعن ( المستأنف) للعمل ، وهو ما دفع الطاعن للقبول بالاتفاقية والتوقيع عليها، وما إذا كان ذلك السلوك يشكل حيلة مؤثرة تتوافر فيها عناصر التغرير كعيب أثر في إرادة الطاعن أم لا ، ومدى أثر ذلك في صحة الاتفاقية ، ولما لم تفعل فإن حكمها يكون والحالة هذه مشوبا بعيب القصور في التسبيب ويتعين نقضه. نقض مدني 247/2005 تاريخ 6/2/2007 ج 3 ص 62 ، نقض مدني 9/2006 تاريخ 7/2/2007 ج 3 ص 67.

(1) نقض مدني 29/2006 تاريخ 28/2/2007 ج 3 ص 71 وقد جاء فيه: لما كان الحكم الطعين قد تضمن فيما تضمنه ” أما فيما يتعلق بالسبب الثاني والقول بخطأ قاضي الموضوع في تفهمه لمعنى الترك الموجب للتخلية فإننا نجد ومن الرجوع إلى القرار المستأنف أن قاضي  الموضوع قد عالج هذا السبب معالجة قانونية نقره عليها.” وحيث إن هذا الذي سجله الحكم الطعين لا أصل له في أوراق الدعوى ذلك أن ما يدعيه المطعون ضده بأن المستأجر ( الطاعن الأول) قام دون موافقة المالك الخطية بالسماح للطاعن الثاني بإشغال العقار المأجور الأمر الذي رأى إزاءه قيام سبب من أسباب التخلية …. وقد انصبت البينة على ذلك كما أن حكم محكمة الصلح القاضي بالتخلية حمل على قيام الاشتراك وتحققه، وحيث إن الحكم الطعين لم يأت على بحث ذلك ولم يتعرض له بل تحدث عن سبب آخر من أسباب التخلية ألا وهو الترك في حين أن سببا كهذا لم يكن مثار ادعاء فإنه يكون قد حمل على غير أساس بما يستوجب نقضه.

(1) د. أحمد أبو الوفا، نظرية الأحكام، ص 307 .