الفصل الثاني – الحساب الجاري

أنشأ التعامل الحساب الجاري، ووضعت الأعراف أسسه؛ واشترك الاجتهاد في تنظيم قواعده وأحكامه؛ قبل أن يكون هناك أي نص تشريعي ينظمه. غير أنه أصبح صبح يعد من أشهر وأهم الحسابات المصرفية في مختلف الأنظمة القانونية المقارنة.

ولم يتضمن قانون التجارة العثماني الذي كان ساريا في فلسطين أي قاعدة تنظيمية تتعلق بالحساب الجاري. أما قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966 فقد تضمن بشأنه أحكاما موجزة في المواد 106 – 114، ولكنها تلقي ضوءً كافيا على سير العملية وما يطبق عليها من قواعد وأحكام. بينما نظم مشروع قانون التجارة الفلسطيني الحساب الجاري في الفصل العاشر من الباب الثالث في المواد 393 – 409 مقتبسا أحكامه من قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999.

ونبحث الحساب الجاري في أربعة مباحث على النحو التالي:

المبحث الأول: تعريف الحساب الجاري ومزاياه.

المبحث الثاني: خصائص الحساب الجاري.

المبحث الثالث: آثار القيد في الحساب الجاري.

المبحث الرابع: وقف الحساب الجاري وقفله.

المبحث الأول

تعريف الحساب الجاري ومزاياه

تعريف الحساب الجاري:

عرفت المادة 106 من قانون التجارة الحساب الجاري بأنه ” الاتفاق الحاصل بين شخصين على أن يكون ما يسلمه كل منهما للآخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية قابلة للتمليك يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع ودينا على القابض، دون أن يكون لأي منهما حق مطالبة الآخر بما سلمه له بكل دفعة على حدة بحيث يصبح الرصيد النهائي وحده عند إقفال هذا الحساب دينا مستحقا ومهيأ للأداء”.(1)

وعرفه المشروع في المادة 393/1 بأنه ” عقد يتفق بمقتضاه طرفان على أن يقيدا في حساب عن طريق مدفوعات متبادلة ومتداخلة الديون التي تنشأ عن العمليات التي تتم بينهما، بحيث يستعيضان عن تسوية هذه الديون تباعا بتسوية واحدة تقع على الحساب عند قفله”. (2)

كما عرفت محكمة التمييز الأردنية الحساب الجاري بأنه” الحساب الجاري هو اتفاق بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للآخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية قابلة للتمليك يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع ودينا على القابض دون أن يكون لأي منهما حق مطالبة الآخر بما سلمه له بكل دفعة على حدة بحيث يصبح الرصيد النهائي وحده عند إقفال هذا الحساب دينا مستحقا ومهيأً للأداء، عملا بنص المادة 106 من قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966). (3)

وهذا التعريف يبين ماهية الحساب الجاري وخصائصه، فالحساب الجاري هو عقد مسمى من نوع خاص له ذاتيته المستقلة عن غيره من العقود وله قواعده الخاصة وأحكامه، وهو عقد رضائي يتم باتفاق الطرفين المتعاقدين. ويشترط أن يتوافر في هذا العقد جميع الشروط القانونية المطلوبة في كل عقد، من رضا خال من العيوب، ومحل وسبب؛ وأن يصدر عن ذي أهلية.

فبالنسبة للتراضي، يكون باتفاق بين المصرف وطالب فتح الحساب، وهذا الاتفاق يقع في الغالب صريحا؛ حيث يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتيهما كتابة. وقد جرت المصارف على أن تقدم للعميل استمارة مطبوعة ومهيأة بصورة مسبقة تتضمن شروط فتح الحساب وتنظم علاقاتهما المتبادلة؛ وبها فراغات يتم ملؤها من قبل طالب فتح الحساب وتوقيعها، بحيث تتوفر معلومات كافية عن هذا الشخص. ويسلمها للمصرف لدراستها.

ويشترط لفتح الحساب الجاري باسم الشخص الطبيعي، أن يكون مقدم الطلب كامل الأهلية، أو قاصرا مأذونا له بمباشرة التجارة، ويقدم الطلب من الشخص نفسه أو من وكيله بموجب تفويض يتضمن صراحة ما يخول الوكيل فتح الحساب الجاري باسم الموكل. كما يجوز للنائب القانوني عن القاصر فتح حساب جار باسم ولمصلحة القاصر بعد أن يقدم للمصرف المستندات التي تثبت هذه النيابة القانونية. أما إذا كان طالب فتح الحساب شخصا معنويا؛ فيفتح الحساب باسم هذا الشخص، ويمثله في فتح الحساب الجاري وتشغيله ممثله القانوني، وعلى المصرف في هذه الحالة التأكد من صلاحية هذا الممثل.

ويقوم المصرف بالتدقيق في الطلب والتحري عن حالة العميل قبل قبول فتح الحساب معه، للتأكد من أنه يتمتع بالثقة اللازمة للتعامل الصرفي، حيث إن فتح هذا الحساب كغيره من عمليات المصارف يقوم على الاعتبار الشخصي، لما ينطوي عليه من مخاطر لا يقبل عليها طرفاه إلا بوجود الثقة المتبادلة، لذلك يكون للمصرف أن يرفض فتح حساب لشخص غير مرغوب فيه ولا يتمتع بثقة المصرف، حرصا على سمعته وسمعة المتعاملين معه.

ومحل عقد الحساب الجاري هو المدفوعات التي تمثل مبالغ من النقود وتدون في الحساب خلال فترة تشغيله، وهي تكون موجودة أو ممكنة الوجود؛ ومعينة أو قابلة للتعيين، وقابلة للتعامل فيها.

أما السبب فهو الاستعاضة عن تسوية كل دفعة من الديون الناشئة بين الطرفين على حدة، بتسوية شاملة لكل الديون مرة واحدة، ينتج عنها رصيد الحساب عند غلقه، وذلك بموجب الأحكام الخاصة بالحساب الجاري. ويجب أن يكون مشروعا، فلا يستخدم الحساب لغرض غير مشروع كأسلوب لغسل الأموال مثلا، أو إخفاء الأموال نتيجة مجهولية مركز العميل المالي تهربا من دفع الضرائب على الدخل والأرباح.

والحساب الجاري وإن كان عقدا قائما بذاته، إلا أنه – إلى حد ما – ذو صفة تبعية، بمعنى أن الحساب الجاري ليس في الواقع سوى تسوية لعلاقات متتابعة؛ كل منها تؤدي بنتيجة تصفيتها؛ إلى قيد في الحساب سواء لصالح المصرف أم لصالح العميل نفسه. لذلك يمكن القول إن الحساب الجاري يبقى على صلة بتطور العمليات التي أدت إلى إجراء القيد فيه.

فإذا استلم المصرف سندا برسم التحصيل ولم يتمكن من استيفاء قيمته حين الاستحقاق، وكان قد قيد قيمته في الحساب، جاز له إجراء القيد العكسي.

وقد يكون العقد محدد المدة وقد يكون غير محدد، وعدم تحديد المدة هو الأصل. وقد يكون الحساب منفردا باسم شخص واحد، وقد يكون حسابا مشتركا باسم عدة أشخاص، كما قد يكون للشخص الواحد عدة حسابات في المصرف ذاته، وقد سبق بيان ذلك. (4)

مزايا الحساب الجاري:

يعد الحساب الجاري من أهم أنواع الحسابات المصرفية نظرا لما يحققه من مزايا وفوائد عملية كثيرة لطرفيه منها:

  1. يعد الحساب الجاري عملا من أعمال الائتمان المصرفي، إذ أنه يسمح للطرف الذي يستحق عليه دين بعدم دفعه فورا اكتفاء بقيده في الحساب، حيث تجري تسوية العمليات التي تقيد فيه عن طريق المقاصة، دون أن تسوى كل عملية على حدة، وبذلك يساعد على ازدياد حركة النشاط التجاري.
  2. يعد الحساب الجاري وسيلة تسوية تؤدي إلى التقليل من استخدام النقود خلال مدة التشغيل، فلا يوجد دائن أو مدين قبل قفل الحساب، بل تتم تسوية جميع العمليات التي تمت بين الطرفين مرة واحدة بطريق المقاصة، ويتم الوفاء بالرصيد عند قفل الحساب.
  3. الحساب الجاري وسيلة بسيطة لتسوية العمليات المتبادلة بين طرفيه، وتقلل المنازعات بفضل المقاصة التي تقع بين هذه العمليات بقيدها في الحساب حتى لو كان وقوعها وفق القواعد العامة غير ممكن، وبذلك لا تبقى سوى دعوى واحدة هي الدعوى التي تحمي دين الرصيد.
  4. يؤدي الحساب الجاري إلى تجنب بعض مخاطر الإفلاس في حالة إفلاس أحد طرفيه، حيث يسمح لغير المفلس بالتمسك بالمقاصة بين دينه المستحق الأداء وديونه المؤجلة خلافا للقواعد العامة التي تنظم أحكام الإفلاس، وبالتالي يعتبر كأنه حصل على تأمين خاص. (5)
  5. إذا اقترن الحساب بتسهيلات مصرفية في صورة اعتماد مالي؛ يكون للعميل أن يسحب مبلغ الاعتماد تباعا ويسدده على أقساط. وكلما دفع قسطا كان من حقه أن يعود إلى سحبه؛ ثم رده؛ ثم سحبه، وذلك خلال مدة الاعتماد، لأن ما يدفعه في الحساب لا يعد وفاء لما قبضه بل مجرد دفعة في الحساب.
  6. لا يلزم العميل بدفع الفوائد عن الاعتماد الذي وضعه المصرف تحت تصرفه؛ إلا بقدر المبلغ الذي سحبه من الاعتماد.

المبحث الثاني

خصائص الحساب الجاري

الحساب الجاري هو عقد رضائي ملزم للجانبين، وهو من عقود المعاوضة، كما أنه عقد مستمر طيلة المدة التي يتم فيها تشغيله، وهو عقد تابع يهدف إلى تسوية التزامات ناشئة عن عقود مختلفة، كما أنه من العقود المسماة حيث نظمه المشرع في قانون التجارة.

وللحساب الجاري خصائص معينة تميزه عن غيره من الحسابات المصرفية الأخرى، إذ يتطلب وجود مدفوعات بين طرفيه متماثلة ومتبادلة ومتشابكة.

أولا: المدفوعات.

يقوم الحساب الجاري على قيد دفعات متعددة يقدمها كل من الطرفين للآخر، بحيث يشكل بعضها الجانب الإيجابي من الحساب وتقيد في الجانب الدائن من الحساب إذا كانت إيداعا، وبعضها الآخر الجانب السلبي منه وتقيد في الجانب المدين من الحساب إذا كانت سحبا منه. وبذلك يتبادل طرفا الحساب صفتي الدائن والمدين.

وتمثل كل دفعة – عادة – عملية جرت بين التاجر والمصرف من جهة، أو بين أحدهما وشخص ثالث يعمل لحساب الآخر من جهة أخرى. كما لو قام أحد مديني صاحب الحساب بتحويل مبلغ لحسابه، أو اشترى المصرف أسنادا أو بضائع بناء على طلبه.

ويشترط في المدفوعات التي تقيد في الحساب الجاري عدة شروط هي:

  1. أن تكون المدفوعات من طبيعة متماثلة حتى يمكن إدماجها في الحساب الجاري.

وقد أشارت المادة 106 من قانون التجارة إلى أن المدفوعات يمكن أن تكون نقودا؛ أو أموالا؛ أو أسناد تجارية قابلة للتمليك. فالمدفوع يجب أن يكون من المثليّات أي من جنس متشابه نوعا؛ لأن التسوية في الحساب تتم عن طريق المقاصة، وهي عملية تستلزم وحدة طبيعة الديون المتقاصة. وهذا التماثل متحقق من الناحية العملية، لأن الديون التي تقيد في الحساب هي غالبا ديون ذات قيمة نقدية، فالدفعات دائما من النقود. وهي محققة الوجود ومعينة المقدار وغير متنازع فيها. ولذلك لا يجوز الخلط بين الدفعات وبين مصدرها الذي قد يكون وديعة أو قيمة أوراق تجارية أو اعتماد مالي … الخ.

وقد تكون النقود المدفوعة عملة أجنبية، وعندئذ قد يكون للعميل عدة حسابات بعملات مختلفة، أو تقيد الدفعة في الحساب بعد تحويلها إلى العملة المحلية. وفي ذلك نصت المادة 400 من المشروع على أنه (1-إذا تضمنت مفردات الحساب ديونا نقدية مقومة بعملات مختلفة، أو أشياء قيمية جاز للطرفين أن يتفقا على إدخالها في الحساب بشرط أن تقيد في أقسام مستقلة يراعى التماثل في المدفوعات التي تتضمنها وأن يصرح الطرفان ببقاء الحساب رغم تعدد أقسامه محتفظا بوحدته. 2-ويجب أن تكون أرصدة الأقسام المستقلة قابلة للتحويل فيما بينها، بحيث يمكن في الوقت الذي حدده الطرفان، أو عند قفل الحساب على الأكثر، إجراء المقاصة بينها لاستخراج رصيد واحد).

  1. أن تكون المدفوعات معينة المقدار ومحققة الوجود:

يجب أن تكون المدفوعات دينا قائما خاليا من النزاع، وغير معلق على شرط واقف. فلا يدخل في الحساب الدين المتنازع عليه ما لم يتأكد الحق فيه، كما لا يدخل في الحساب الدين المعلق على شرط واقف ما لم يتحقق الشرط؛ كتحصيل قيمة ورقة تجارية مظهرة للمصرف تظهيرا توكيليا.

فالأصل أن كل قيد يمثل دفعة في الحساب يجب أن يقابل دينا أكيدا وخاليا من النزاع. لذلك يجوز إجراء قيد الدين المؤجل لأنه يعد محقق الوجود؛ ولكن بشرط أن يسجل في خانة الديون المؤجلة، فإذا أغلق الحساب بعد تحقق أجل هذا الدين اشترك مع بقية الديون الداخلة في الحساب ضمن عملية التسوية الشاملة لاستخراج الرصيد. أما إذا أغلق الحساب قبل تحقق أجل الدين، وجب استبعاده من المشاركة في عملية تسوية عناصر هذا الحساب.

كما يجوز قيد الدين المعلق على شرط فاسخ؛ كالاعتماد المصرفي الممنوح للعميل والقابل للإلغاء لاحقا، لأنه يعتبر محقق الوجود؛ فإذا تحقق الشرط الفاسخ ترتب على ذلك زوال الدين ووجوب إقصائه من قيود الحساب الجاري، وذلك بإجراء القيد العكسي بشأنه لأن هذا القيد العكسي يلغي القيد الأصلي بصورة طبيعية. وفي ذلك نصت المادة 396 من المشروع على أنه (إذا انقضى القيد في الحساب الجاري أو خفض مقداره بسبب لاحق لدخوله الحساب وجب إلغاء قيده أو تخفيضه وتعديل الحساب تبعا لذلك).

  1. أن تسلم المدفوعات إلى الطرف الآخر على سبيل التمليك. لأن المدفوعات لا تعتبر دينا على القابض إلا إذا تملكها، أما إذا كان موكلا بتحصيل قيمتها فلا تعد من المدفوعات إلا بعد تحصيلها فعلا، لأن الوكيل لا يتملك ما وكل بتحصيله حتى يصبح دينا عليه. وفي ذلك نصت المادة 109 من قانون التجارة على:
  1. إن الدفع بواسطة سند تجاري لا يعد حاصلا إلا بشرط قبض قيمته ما لم يكن اتفاق مخالف.
  2. وإذا لم تسدد قيمة السند في موعد استحقاقه فيحق لمستلمه مع الاحتفاظ به على سبيل التأمين ومع استعمال الحقوق المنوطة به، أن يقيد قيمته على حساب مسلمه.
  3. وفي حالة إفلاس مسلم السند لا يحق للمستلم بالرغم من كل اتفاق مخالف أن يقيده في الحساب إلا بعد أن يحل أجل الاستحقاق ويثبت عدم الوفاء.
  4. وإذا قيدت أسناد على هذه الصورة وجب على متسلمها أن يخفض مبلغ طلباته في التفليسة بنسبة الدفعات التي أداها موقعو تلك الأسناد.

ويتبين من هذا النص أن العميل قد يقدم للمصرف ورقة تجارية لتحصيل قيمتها، فإذا كان قد ظهرها للمصرف تظهيرا توكيليا؛ لا يجوز قيد قيمتها في الحساب الجاري إلا بعد تحصيلها. لأن المصرف لا يعتبر مالكا لهذه الورقة وإنما مجرد وكيل في استلام قيمتها من المكلف بالأداء لمصلحة المظهر.

أما إذا ظهرها للبنك تظهيرا ناقلا للملكية فيجوز قيد قيمتها في الحساب، فإذا لم يتمكن المصرف من تحصيل قيمتها في تاريخ الاستحقاق لعدم وجود رصيد بالنسبة للشيك مثلا، كان للمصرف إجراء قيد عكسي بقيمتها.

ويترتب على انتقال ملكية المدفوع للقابض عدة نتائج قانونية منها:

  1. للقابض حق التصرف في المدفوع وبالتالي لا يعد مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة، لأن من حق المالك أن يتصرف في ملكه.
  2. لا يجوز للدافع استرداد المدفوع من القابض أو من تفليسته إن أشهر إفلاسه، لأنه قد فقد ملكيته للمدفوع.
  3. تقع تبعة هلاك المدفوع على القابض باعتباره مالكا، لأن تبعة الهلاك وفق القواعد العامة تقع على المالك.

ثانيا تبادل المدفوعات

حتى تؤدي الدفعات إلى دعم الحساب وإعطائه هذه الصفة (جاري) لا بد لها أن تكون متبادلة، بحيث يقوم كل منهما بدور الدائن أحيانا والمدين أحيانا أخرى خلال مدة تشغيل الحساب، فيودع في الحساب مبالغ نقدية متتالية؛ ويقوم بسحب مبالغ منها من وقت لآخر سواء نقدا أو عن طريق شيكات أو تحويل مصرفي من حساب لحساب شخص آخر.

فالدفعات التي تقتصر على طرف دون الآخر لا تشكل حسابا جاريا، فلا يعد حسابا جاريا الحساب الذي يتفق عند فتحه على أن يقوم أحد الطرفين بإيداع مبالغ في الحساب دون أن يكون من حقه سحبها خلال مدة تشغيل الحساب، كما لو اقتصر الحساب على قيام العميل بدفع مبالغ في أوقات مختلفة تقيد في حسابه، على أن يستردها فيما بعد دفعة واحدة، أو العكس.

غير أنه ليس من الضروري توافر التبادل فعلا، أو أن يكون تبادل الدفعات مستمرا بدون انقطاع، بل يكفي أن يكون هذا التبادل ممكنا؛ أي جائزا ومحتملا؛ حتى ولو لم يحدث بالفعل، بأن يكون في نية الطرفين تبادل الدفعات؛ وأن لا يكونا قد استبعدا هذا التبادل سواء بالاتفاق أو بحسب طبيعة العملية.

فتبادل الدفعات الذي يعتبر عاملا أساسيا من عوامل تكوين الحساب الجاري يتألف من عنصرين:

  1. عنصر معنوي، يقوم على أن الطرفين المتعاقدين أرادا جعل الدفعات يضمن بعضها بعضا عن طريق المقاصة التي تجري بين مختلف القيود المسجلة في جهتي الحساب.
  2. عنصر مادي، يقوم على تحقيق العنصر المعنوي بوجود دفعات متبادلة بصورة فعلية.

ثالثا: تداخل المدفوعات وتشابكها.

يتبين من تعريف الحساب الجاري في المادة 393/1 من المشروع، أنه يشترط أيضا أن تكون الدفعات في الحساب الجاري متداخلة، أي أن لا تقتصر الديون التي تقيد في الحساب على جهة واحدة، بل يجب أن تتداخل ويتخلل بعضها بعضا؛ بحيث تكون دفعات كل من الطرفين محاطة بدفعات الطرف الآخر. ولكن لا يشترط تداخل الدفعات فعلا وإنما يكفي أن يكون ذلك ممكنا حسب شروط العقد.

أما إذا اتفق على ألا تبدأ مدفوعات أحد الطرفين إلا حين تنتهي مدفوعات الطرف الآخر فلا تعتبر حسابا جاريا. وفي ذلك نصت المادة 393/2 من المشروع على أنه (لا يعتبر حسابا جاريا الاتفاق على ألا تبدأ مدفوعات أحد الطرفين إلا حين تنتهي مدفوعات الطرف الآخر).

فلا يعتبر حسابا جاريا حالة ما إذا قدم المصرف قرضا لعميله وفتح حسابا لهذا القرض، إذا تبين أن الطرفين قد اتفقا على أن يكون للعميل الحق في سحب القرض على دفعات متتالية، ومتى استنفذ مبلغ القرض وجب عليه تسديده بأقساط. أما إذا تبين أن الطرفين قد اتفقا على أن يكون للعميل الحق في السحب والتسديد على أقساط خلال فترة معينة، بحيث يكون للعميل الحق في إعادة سحب كل أو جزء من المبلغ الذي يقوم بتسديده للمصرف فإن الحساب يكون حسابا جاريا لأن الدفعات تكون متداخلة يحيط بعضها بعضا.

ويترتب على تبادل المدفوعات وتداخلها في الحساب الجاري الآثار التالية:

  1. عدم قابلية الدفعة أو الدين للإيفاء المستقل، فلا يجوز المطالبة باستحقاق أي مفرد في الحساب.
  2. زوال ضمانات الدين الشخصية والعينية، بما فيها الرهون والكفالات، سواء كانت هذه الضمانات قانونية أم اتفاقية، فلا تنتقل هذه الضمانات إلى الرصيد النهائي للحساب إلا بناء على اتفاق المصرف والعميل، فلهما الحق في الاتفاق على بقاء الضمانات المتعلقة بالديون المقيدة في الحساب الجاري، فتتحول عند ذلك إلى رصيد الحساب الدائن. وفي ذلك قضت محكمة التمييز (إذا أدخلت الديون في الحساب الجاري فقدت صفاتها الخاصة وكيانها الذاتي، كما تزول التأمينات الشخصية أو العينية المتصلة بالديون التي أدخلت بالحساب الجاري ما لم يكن اتفاق مخالف بين البنك والعميل وذلك عملا بالمادة 111 من قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966). (6)

ويجدر الذكر بأن رأيا في الفقه –نؤيده-يذهب إلى أن شرط التداخل (التشابك) غير لازم ويغني عنه شرط تبادل المدفوعات، لأن تحقق هذا الشرط يؤدي إلى النتيجة ذاتها التي يؤدي إليها شرط التشابك، لأن تبادل صفة الدائن والمدين تتراوح بين المصرف وعميله خلال مدة تشغيل الحساب، وهذا يعني أن المدفوعات تتداخل ويتخلل بعضها بعضا بحيث تكون مدفوعات كل من الطرفين محاطة بمدفوعات الطرف الآخر. (7)

رابعا: مدى الحساب الجاري.

نصت المادة 107/1 من قانون التجارة على أنه ” 1-يتوقف مدى الحساب الجاري على إرادة المتعاقدين فلهما أن يجعلاه شاملا لجميع معاملاتهما أو لنوع معين منها فقط “. (8)

ويتبين من هذا النص أن مدى الحساب الجاري يرجع لإرادة طرفي الحساب. فيجوز للطرفين الاتفاق على أن يشمل الحساب الجاري جميع الديون الناشئة فيما بينهما طيلة فترة تشغيل الحساب الجاري، وهذا تطبيق لما يسمى بمبدأ عمومية الحساب الجاري. كما يجوز لهما الاتفاق على حصر نطاق الحساب الجاري على ديون معينة دون غيرها تطبيقا لما يسمى بتخصيص الحساب الجاري. وفي ذلك قضت محكمة التمييز بأنه (يتوقف مدى الحساب الجاري على إرادة المتعاقدين فلهما أن يجعلاه شاملا لجميع معاملاتهما أو لنوع معين منها فقط، عملا بنص المادة 107 من قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966). (9)

فالحساب الجاري يتسع ليشمل جميع الديون الناشئة بين المصرف فاتح الحساب والعميل صاحب الحساب طالما أن هذه الديون ناتجة عن علاقات الأعمال المصرفية المبرمة بينهما، ما لم يتفق الطرفان على توسيع هذا النطاق بصورة تشمل ديونا أخرى، أو تقليص هذا النطاق بحدود ديون معينة حصرا دون غيرها. فدخول الدين في الحساب الجاري يتم بحكم القانون دون حاجة لاتفاق خاص بشأن كل دين يدخل في الحساب، ما لم يتفق على استبعاده باتفاق سابق على نشأته أو لاحق عليه.

والقاعدة التي يسير عليها التجار حين فتح حسابات جارية لدى المصارف هي أن الحساب الجاري يشمل جميع العمليات التي تجري بينهم وبين المصرف، بحيث تدخل الحساب جميع مدفوعات الطرفين بعضهما تجاه بعض. ويطلق على ذلك مبدأ عمومية الحساب الجاري، بحيث تقيد في الحساب جميع العمليات التي تتم بين الطرفين دون حاجة إلى اتفاق خاص لقيد كل عملية على حدة.

غير أنه استثناء من هذا المبدأ يجوز للطرفين استبعاد بعض العمليات وعدم قيدها في الحساب، إما نتيجة اتفاق؛ أو بسبب طبيعة العملية. فقد يقدم العميل دفعة للمصرف ويطلب منه تخصيصها للوفاء بقيمة شيك معين، وفي هذه الحالة يكون تخصيص الدفعة بهذا الوفاء مانعا من دخولها في الحساب الجاري.

وقد يخرج الطرفان بعض الأعمال القائمة بينهما من الحساب، كما لو اتفقا على إخراج الحقوق والديون الناشئة عن أعمال عقارية من الحساب. كما استقر الفقه والقضاء على أن الديون الناشئة عن العلاقات الشخصية والعائلية لا تدخل في الحساب.

صورتا الحساب الجاري:

نصت المادة 107/2 من قانون التجارة على أنه ” 2-يجوز أن يكون الحساب الجاري مكشوفا لجهة الفريقين أو لجهة فريق واحد، وفي هذه الحالة الأخيرة لا يلزم أحد الفريقين بإسلاف المال للآخر إلا إذا كان لدى الأول مقابل وفاء كاف. ولا يجوز في حال من الأحوال أن يستقر هذا الحساب على رصيد إيجابي لمصلحته “.

ويتبين من هذا النص أن الحساب الجاري يمكن أن يكون في إحدى صورتين:

الصورة الأولى: الحساب المكشوف لجهة فريق واحد.

ويكون الحساب الجاري مكشوفا لجهة فريق واحد، إذا اتفق الطرفان على فتحه؛ أو قضى العرف التجاري أن يكون الرصيد دائما متساويا أو مدينا لجهة العميل. كأن يودع أحد الأشخاص مبلغا من المال في المصرف ويطلب منه أن يفتح له به حسابا جاريا. ففي هذه الحالة يستقر الحساب الجاري دوما على رصيد إيجابي لمصلحة المودع؛ إذ لا يجبر المصرف على تسليمه أكثر من المبلغ المودع؛ أو يرصد الحساب الجاري بأرقام متساوية على أبعد تقدير.

وفي هذه الحالة يتحقق التقارب بين هذا الحساب وبين حساب الودائع تحت الطلب، ولكن يبقى هناك فارق نوعي بينهما يكمن في طريقة دخول الدين في الحساب. فبينما يكون دخول الدين في حساب الودائع مرتبطا بإرادة المودع، يكون دخول الدين في الحساب الجاري بحكم القانون؛ بحيث يتلقف أو يمتص المدفوع دون إمكانية استبعاده بإرادة أحد الطرفين دون الآخر. ولهذا الأمر أهمية تتعلق بضمانات المصرف في استيفاء دينه في حالة إعسار أو إفلاس العميل صاحب الحساب بعيدا عن مزاحمة دائني هذا العميل.(10)

الصورة الثانية: الحساب المكشوف لجهة الطرفين.

يكون الحساب مكشوفا لجهة الفريقين، إذا تبين من اتفاقهما؛ أو من العرف التجاري؛ أن رصيد الحساب يمكن أن يكون إيجابيا أو سلبيا لكل من الطرفين. ويتحقق ذلك عندما يقترن فتح الحساب الجاري بعملية اعتماد مصرفي، أي قيام العلاقة القانونية بين المصرف والعميل على أساس اتفاقين، اتفاق خاص بفتح الحساب الجاري؛ واتفاق ثان بشأن عمليات الاعتماد المصرفية، حيث يمكن للعميل أن يسحب من الحساب أكثر من المبالغ المودعة فيه، وفي هذه الحالة يصبح المصرف دائنا للعميل بالفرق بين المبلغ المسحوب من قبله وبين رصيده الدائن. ويطلق على هذا الحساب اسم (الحساب الجاري المدين) أو الحساب الجاري المكشوف.

وهذا الحساب يتسم بمرونة تنسجم مع حاجة العميل من جهتين:

  1. إمكانية استخدام المدفوعات أكثر من مرة لحين قفل الحساب، حيث يمكن للعميل رد ما سحبه من مبالغ الاعتماد الداخل في الحساب، ثم إعادة سحبها ثانية، دون أن يصطدم بقاعدة الاستهلاك حيث إن ما يدفعه في الحساب لا يعني استهلاكا لعقد الاعتماد وانقضاء لدين العميل في مواجهة المصرف بمقدار المبلغ الذي تمت إعادته، لأن قواعد الحساب الجاري تقضي بأن المبالغ التي تسحب لا تعد دينا حالا؛ والمبالغ التي تقيد لا تعد وفاء بصورة معزولة عن بقية عناصر الحساب الجاري، إلى أن تسوى جميع المدفوعات جملة واحدة ينتج عنها الرصيد الذي يستقر حقا لطرف في مواجهة الآخر.
  2. لا يضطر العميل إلى دفع فوائد عن الاعتماد الممنوح إلا بما يتناسب مع الاعتماد المسحوب كمّا وزمنا، حيث تستحق الفوائد فقط عن المبلغ الذي ينكشف عنه الحساب الجاري، أي يصبح مدينا؛ وعن فترة الانكشاف فقط. أي عن الفترة التي تسحب فيها مبالغ تفوق الرصيد الدائن للعميل، مع توقف هذه الفوائد حال عودة الرصيد من مدين إلى دائن.

غير أن اختلاف صفة الحساب من هذه الناحية لا يؤثر على شروطه وخصائصه، فكل منهما يخضع للشروط والقواعد ذاتها؛ ويؤدي إلى ذات الآثار. ولكن نظرا لاحتمال تعرض المصرف لمخاطر احتمال عدم الوفاء من جهة العميل المدين في الحساب الجاري المدين، فإن فتح الحساب غالبا ما يقترن بتقديم العميل تأمينات كافية تضمن للمصرف استيفاء حقه كاملا، سواء كانت تأمينات شخصية نموذجها الكفالة الشخصية، أو تأمينات عينية نموذجها الأساسي الرهن. (11)

فوائد المبالغ المدرجة في الحساب:

نصت المادة 110 من قانون التجارة على ” إن الدفعات تنتج حتما لمصلحة المسلم على المستلم فائدة تحسب على (المعدل) القانوني إذا لم تكن معينة بمقتضى العقد أو العرف”. (12)

فقد يتفق المصرف وعميله على فائدة معينة بالنسبة لإحدى الدفعات، وفي هذه الحالة تحسب الفائدة القانونية بمجرد قيدها في الحساب مع الدفعة ذاتها.

وإذا لم يكن هناك اتفاق على الفائدة وجب حساب الفائدة القانونية بمجرد قيد الدفعة في الحساب.

ومتى أدرجت الفائدة في الحساب فلا تتقادم إلا مع تقادم الرصيد بعد قفله؛ لأنها تصبح من مفرداته وتشترك في تحديد الرصيد وتصبح جزءا منه.

وفيما عدا الفوائد، يتناول المصرف عادة عمولة على مسك الحساب، وهذه العمولة تقابل النفقات التي يقتضيها إجراء القيود ومسك السجلات والمحاسبة وغيرها. وإذا كان المبلغ المقيد في الحساب نتيجة لعملية قام بها المصرف لحساب عميله ” كوكيل بالعمولة” فإنه يستوفي عندئذ العمولة الخاصة بهذه العملية وفقا لقواعد الوكالة بالعمولة.

وقد نصت المادة 108 من قانون التجارة على ” إن وجود الحساب الجاري لا يمنع أحد المتعاقدين من مطالبة الآخر بالعمولة التي استحقها عن عمل قام به بالعمولة وباسترداد نفقات العمليات المختصة بالحساب الجاري، وهي تقيد في الحساب ما لم يكن هناك اتفاق مخالف”.

(1)(1) يستفاد من نص المادة 106 أن الحساب الجاري يمكن أن ينشأ بين تاجرين بينهما علاقة مستمرة ومتصلة، كما لو كان أحدهما تاجر جملة والآخر تاجر تجزئة، فيقيد كل منهما ما له وما عليه تجاه الآخر، أو بين موكل ووكيل بالعمولة يقوم بتسجيل أثمان البضائع للموكل والعمولة والمصاريف عليه. كما نصت على ذلك صراحة الفقرة 3 من المادة 393 من المشروع بقولها (تسري أحكام هذا الفرع على كل حساب جار، ولو لم يكن أحد الطرفين مصرفا).

(2)(2) أخذ هذا التعريف عن المادة 361/1 من قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999. بينما يذهب بعض الفقهاء إلى عدم وضع تعريف للحساب الجاري لأن أحكامه ليست جامدة وإنما متطورة متغيرة، وبعضها ما زال مثار خلاف في الفقه وتردد في القضاء. وأنه من الصعب وضع تعريف دقيق جامع لنظام له شروط ويرتب آثارا متعددة، وأجدى من ذلك أن يتم عرضه طبقا لما يجري عليه العمل وما تقضي به المحاكم .

(3)(3) تمييز حقوق رقم 1068/89 تاريخ 10/4/1990، مجلة نقابة المحامين لسنة 1991 صفحة 1333.

(4)(4) يرجع لما سبق صفحة 17-19.

(5)(5) علي جمال الدين عوض، المرجع السابق صفحة 225.

(6)(6) تمييز حقوق رقم 48/90 تاريخ 17/6/1990 مجلة نقابة المحامين لسنة 1991 صفحة 1649.

(7)(7) عزيز العكيلي المرجع السابق صفحة 328.

(8)(8) نصت المادة 399 من المشروع على أنه:

1- تقيد في الحساب الجاري جميع الديون الناشئة عن علاقات الأعمال التي تتم بين طرفي الحساب، ما لم تكن هذه الديون مصحوبة بتأمينات قانونية أو اتفاقية، أو اتفق على استبعادها من الحساب.

2- ومع ذلك يجوز قيد الديون المصحوبة بتأمينات اتفاقية، سواء أكانت تلك التأمينات مقررة من المدين أم من الغير، في الحساب الجاري إذا اتفق جميع ذوي الشأن كتابة على ذلك، وفي هذه الحالة ينتقل التأمين لضمان رصيد الحساب الجاري عند قفله بمقدار الدين المضمون، دون اعتبار لما يطرأ على الحساب أثناء تشغيله من تغيرات، إلا إذا اتفق على غير ذلك، ولا يحتج على الغير بانتقال التأمين إلى رصيد الحساب إلا من تاريخ شهره إذا كان القانون يستلزم هذا الشهر.

(9)(9) تمييز حقوق 1068/89 السابق.

(10)(10) فائق محمود الشماع، الحساب المصرفي، الطبعة الأولى، الإصدار الثاني، دار الثقافة عمان، 2009، صفحة 190 و191.

(11)(11) المرجع السابق، صفحة 238 وما بعدها.

(12)(12) بينما نصت المادة 398 من المشروع على أنه (1- لا تنتج المدفوعات في الحساب الجاري عائدا، إلا إذا اتفق على غير ذلك، ويحسب العائد وفقا للسعر الذي تحدده سلطة النقد وقت استحقاقه، ما لم يتفق على مقابل أقل. 2- لا يجوز حساب عائد على العوائد، إلا إذا كان الحساب جاريا بين مصرف وطرف آخر).