الفصل الخامس – الاختصاص المحلي

المبحث الثالث

المكان الذي نشأ فيه الالتزام

      إذا نشأ الالتزام نتيجة علاقة تعاقدية يجوز إقامة الدعوى في محكمة المكان الذي تم فيه إبرام العقد ، وإذا نشأ الالتزام نتيجة فعل ضار أو فعل نافع يجوز إقامة الدعوى في محكمة المكان الذي وقع فيه الفعل الضار أو الفعل النافع . وقد كانت المادة الثالثة من قانون أصول المحاكمات الحقوقية الملغى تعبر عن هذا المكان في فقرتها الأولى بالمكان الذي تم فيه التعهد أو وقع فيه الفعل المسبب للدعوى .

     وجدير بالذكر أن هذه المعايير الثلاثة قد وردت على سبيل التخيير فيجوز للمدعي أن يختار أيا منها لإقامة الدعوى لأنها متساوية في الدرجة ، وتعد الدعوى المقامة في أي محكمة وفق أحد هذه المعايير صحيحة وتعد المحكمة مختصة بنظرها محليا.

المبحث الرابع

مستثنيات القواعد العامة

      خرج المشرع على القواعد العامة المتقدمة في الاختصاص المحلي، فأورد عليها بعض الاستثناءات ، مراعاة لمصلحة العدالة أو مصلحة خاصة، ومنح الاختصاص إما لمحكمة غير محكمة موطن المدعى عليه أو محل عمله أو مكان نشوء الالتزام ، أو لمحاكم قد يكون من بينها محكمة موطن المدعى عليه أو محل عمله أو مكان نشوء الالتزام . وهذه الاستثناءات هي :

1-  الدعاوى المتعلقة بعقار ترفع إلى المحكمة التي يقع العقار في دائرتها

      وقد نصت على هذا الاستثناء المادة (44) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد بقولها :

  1. إذا تعلقت الدعوى بحق عيني على عقار أو على أحد أجزائه فيكون الاختصاص لمحكمة موقع المال .
  2. إذا تعددت الأموال العقارية فيكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها أي منها .

      والحكمة من هذا الاستثناء أن محكمة موقع العقار هي أقرب المحاكم للعقار وأقدرها على الفصل فيما يثور حوله من منازعات ، خاصة إذا تطلب إثبات الدعوى انتقال المحكمة إلى مكان العقار لمعاينته ، أو ندب خبير لمباشرة هذه العملية .

      ويشترط لاختصاص موقع العقار أن تتعلق الدعوى بحق عيني أصلي أو حق عيني تبعي على هذا العقار، سواء تعلقت بتقرير هذا الحق أو إنكاره. مثال ذلك دعوى ثبوت الملكية، ودعوى الاستحقاق، ودعوى الانتفاع، ودعوى الاستعمال، ودعوى السكنى، ودعوى الحكر، ودعوى الارتفاق، والدعوى المتعلقة بالرهن الرسمي أو الحيازي، وحق الاختصاص وحق الامتياز الوارد على عقار، سواء رفعت الدعوى من حائز العقار أو عليه، ودعوى الشفعة أو الأولوية باعتبارها سببا من أسباب كسب الملكية إذ يقصد الشفيع أو طالب الأولوية من ورائها تقرير حق عيني أصلي له على العقار المشفوع فيه. كما تأخذ دعوى الحيازة حكم الدعوى العينية العقارية لأنها تحمي حيازة الحق العيني العقاري، فهي عينية لأن حيازة الحق قرينة على تملكه، وهي عقارية لأن الحق العيني الذي تحمي حيازته يتعلق بعقار.

ولا يكفي أن تتعلق الدعوى بعقار،  لذلك لا تخضع لهذه القاعدة دعوى المطالبة بأجرة العقار ، أو دعوى بطلان أو فسخ أو صورية عقد بيع العقار أو دعوى المستأجر بإلزام المؤجر بتسليم العقار المؤجر ، وذلك لأن المشرع حصر النص في الدعاوى العينية العقارية ولم يتكلم عن الدعاوى المتعلقة بالعقارات بصورة عامة .(1)

وإذا تعلقت الدعوى بعقار ومنقول تبع الأصل الفرع، فالمطالبة بملكية العقار وريعه أو ما عليه من منقولات ترفع إلى محكمة موقع العقار.

      وإذا كان العقار واقعا في دوائر محاكم متعددة ، فإن المشرع أجاز رفع الدعوى أمام أية محكمة يقع في دائرتها أحد أجزاء العقار بصرف النظر عن مساحة هذا الجزء أو قيمته، فكل محكمة يقع في دائرتها أحد أجزاء العقار تكون مختصة حتى لو كان هذا الجزء هو أصغر الأجزاء قيمة أو مساحة، إذ لا عبرة بمساحة أو قيمة.

     أما الدعاوى الشخصية العقارية، وهي التي تستند إلى حق شخصي بحت ويطلب فيها تقرير حق عيني على عقار أو اكتساب هذا الحق، كالدعوى التي يرفعها المشتري بعقد غير مسجل ويطلب فيها الحكم على البائع بصحة التعاقد واعتبار الحكم ناقلا للملكية من تاريخ تسجيل لائحة الدعوى ، والدعاوى المختلطة ، وهي التي تستند إلى حق شخصي وحق عيني في ذات الوقت وتوجه إلى المدعى عليه باعتباره مدينا بالحق الشخصي وملزما في الوقت نفسه باحترام الحق العيني باعتباره نتيجة لثبوت الحق الأول، مثل دعوى المشتري على البائع بتسليم العقار المباع تنفيذا لعقد البيع، أو دعوى البائع على المشتري بفسخ البيع ورد العقار إليه، ودعوى الواهب على الموهوب له بالرجوع عن الهبة ورد العقار إليه ، فلم يخصص لها المشرع نصا خاصا يبين اختصاصها ، كما هي الحال في القوانين المقارنة ، بينما نصت المادة 37/3 من قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني الجديد على أنه ” في الدعاوى الشخصية العقارية ، يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها العقار أو موطن المدعى عليه “.

      ونرى الأخذ بهذا النص في ظل قانونا الجديد ، بحيث يكون للمدعي الخيار في رفع الدعوى لأي من هاتين المحكمتين .

2-  الدعاوى المتعلقة بالأشخاص الاعتبارية

      تنص المادة (45) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أنه ” يكون الاختصاص في الدعوى المتعلقة بالأشخاص الاعتبارية للمحكمة التي يقع في دائرتها مركزها الرئيس ، فإذا تعلقت الدعوى بفرع الشخص الاعتباري جاز رفعها أمام المحكمة التي يقع في دائرتها ذلك الفرع “.

      وهذا النص يطبق ذات المبدأ الذي كان مقررا في الفقرة الخامسة من المادة الثالثة من قانون أصول المحاكمات الحقوقية الملغى .

          ويقصد بالدعوى المتعلقة بالشخص الاعتباري تلك الدعوى المتعلقة بذات الشخص الاعتباري من حيث صحة تكوينه ووجوده وإدارته وانقضائه، وليس تلك الدعوى المتعلقة بعلاقة الشخص الاعتباري مع الغير . (2)

      والدعاوى المتعلقة بالأشخاص الاعتبارية سواء كانت شركات أو جمعيات أو مؤسسات قد يرفعها أحد الشركاء أو الأعضاء على الشخص الاعتباري وفي هذه الحالة تخضع للقاعدة العامة التي تجعل الاختصاص لمحكمة موطن المدعى عليه وهو المحكمة التي يوجد بدائرتها موطن الشخص الاعتباري أي مركزه الرئيس. كما قد ترفع الدعوى من الشخص الاعتباري على أحد الشركاء أو الأعضاء بصفته شريكا أو عضوا فيه، أو من شريك أو عضو على شريك أو عضو آخر وفي هاتين الحالتين يكون الاختصاص للمحكمة التي يوجد في دائرتها المركز الرئيس للشخص الاعتباري وليس موطن المدعى عليه، ويشترط في هاتين الحالتين أن تتحقق علاقة الشريك أو العضو بالشخص الاعتباري، فإذا كانت صفة الشريك أو العضو متنازعا فيها أو غير معترف بها كما لو أنكر المدعى عليه صفته كشريك أو عضو، وجب رفع الدعوى أمام محكمة موطن المدعى عليه طبقا للقاعدة العامة .

      وقد خرج المشرع على القاعدة الأساسية المتعلقة بموطن المدعى عليه أو محل عمله في الدعاوى التي يرفعها الشخص الاعتباري (الشركة أو الجمعية أو المؤسسة) على أحد الأعضاء، والدعاوى التي يرفعها الشريك أو العضو على شريك أو عضو آخر بشرط أن تكون متعلقة بالشخص الاعتباري (الشركة أو الجمعية أو المؤسسة)، وذلك مراعاة لحسن سير القضاء، إذ يلزم للفصل في هذه الدعاوى الرجوع إلى مركز الشركة أو الجمعية أو المؤسسة للحصول على بعض البيانات أو الاطلاع على بعض المستندات أو فحص أوراقها ودفاترها، لذلك منح المشرع الاختصاص لأقرب محكمة من مركزها حتى تتمكن هذه المحكمة من القيام بالفصل في هذه الدعاوى دون مشقة وفي أقرب وقت ممكن ، وبذلك تتحقق مصلحة الخصوم وحسن سير العدالة.

     وقد أجاز المشرع للمتقاضين رفع الدعاوى التي تتعلق بفرع الشخص الاعتباري ومتصلة به، أمام المحكمة التي يقع بدائرتها الفرع تيسيرا عليهم حتى لا يضطروا إلى الانتقال إلى المحكمة التي يقع بدائرتها مركز الشخص الاعتباري وقد تكون بعيدة عنهم. فهم بالخيار بين رفع الدعوى أمام محكمة المركز الرئيس للشخص الاعتباري أو رفعها أمام محكمة الفرع .

      ويلاحظ أن النص المتقدم نص عام يشمل الأشخاص الاعتبارية القائمة أو في دور التصفية، حيث يعين مصف رضاء أو قضاء ويكون هو صاحب الصفة في التقاضي باعتباره ممثلا عن الشخص الاعتباري في دور التصفية، وتظل الشخصية الاعتبارية قائمة إلى حين الانتهاء من التصفية.

          ويسري نص المادة 45 المذكورة متى توافرت شروطها أيا كان نوع الدعوى أو موضوعها عدا الدعاوى العينية العقارية التي تخضع لموقع العقار سواء رفعت من الشركة أو ضدها ولو كانت المطالبة بالعقار متصلة بأعمال الشركة وإدارتها، وذلك لأن الاعتبارات التي دعت لتفضيل موقع العقار تبقى قائمة.

3-  دعاوى الإفلاس

     تنص المادة (46) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد على أنه ” إذا كانت الدعوى تتعلق بإفلاس تاجر أو شركة وكان له أو لها فروع في أماكن متعددة فينعقد الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها المركز الرئيس “.

      كما تنص المادة (47) منه على أنه ” تختص المحكمة التي أصدرت قرار الإعسار وإشهار الإفلاس بالمنازعات المتعلقة به “.

      فإذا كانت الدعوى تتعلق بإفلاس تاجر أو شركة ، وكان له أو لها فروع في أماكن متعددة ، فلا ترفع الدعوى إلا لدى المحكمة التي يقع في دائرتها المركز الرئيس أي المحل المتخذ مركزا للتجارة ، وهو ذات المبدأ الذي في الفقرة السادسة من المادة الثالثة من قانون أصول المحاكمات الحقوقية الملغى . وتكون المحكمة التي أشهرت الإفلاس مختصة برؤية جميع الدعاوى التي تتعلق بإشهار الإفلاس . وهي محكمة البداية التي يوجد في نطاقها المركز الرئيس للمؤسسة التجارية (م 317/1 تجارة).

      والمقصود بدعاوى الإفلاس الدعاوى الناشئة عن شهر الإفلاس ذاته ، أو المتعلقة بإدارة التفليسة ، أو التي تطبق عليها قاعدة من قواعد الإفلاس كالدعوى التي يرفعها الغير على وكيل التفليسة للمطالبة بدين له على المفلس، أو الدعوى التي يرفعها وكيل التفليسة على الغير بشأن اعتبار تصرف غير نافذ في حق الدائنين لحصوله في فترة الريبة . باعتبارها أقدر المحاكم على إدراك حالة التاجر والفصل في الدعاوى الناشئة عن الإفلاس، وهذا يؤدي إلى تيسير الفصل فيها وتفادي صدور أحكام متضاربة.

          وتكون هذه المحكمة مختصة بجميع الدعاوى المتعلقة بالتفليسة سواء كانت عينية عقارية ( ولو تعلقت بعقار يقع في دائرة محكمة أخرى)، أو كانت من اختصاص محكمة الصلح، مثل دعوى إبطال تصرف عقاري صادر من المدين للغير خلال فترة الريبة، وبطلان الرهن الصادر من المفلس خلال فترة الريبة ضمانا لدين سابق سواء نشأ قبل أو بعد مواعيد التوقف عن الدفع.

          أما الدعاوى التي لا علاقة لها بالتفليسة فينعقد الاختصاص المحلي بنظرها وفقا للقواعد العامة ولو كانت مرفوعة من وكيل التفليسة أو عليه بسبب حرمان المفلس من التقاضي، مثل دعاوى المنازعات الإيجارية المتعلقة بمسكن المفلس وأسرته، والدعوى التي يرفعها وكيل التفليسة للمطالبة بعقار كان المفلس قد اشتراه قبل إفلاسه.

          ومتى أقفلت التفليسة، خضع الاختصاص المحلي بالدعاوى التي يرفعها المفلس أو التي ترفع عليه للقواعد العامة.

      وتبين المادة (47) أن ما ينطبق بشأن الإفلاس ، ينطبق أيضا على الدعاوى المتعلقة بالإعسار المدني ، حيث يكون الاختصاص للمحكمة التي قضت به .

4-  الدعاوى الناشئة عن الفعل الضار

      تنص المادة (48) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أنه ” يجوز في دعاوى التعويضات الناشئة عن الفعل الضار إقامة الدعوى لدى المحكمة التي يقيم المدعي ضمن دائرة اختصاصها أو المحكمة التي حدثت في دائرتها الواقعة المنشئة للفعل المشكو منه “.

      ويتبين من هذا النص أن المشرع خرج عن القواعد العامة بخصوص هذه الدعاوى بأن أجاز للمدعي إقامة الدعوى لدى المحكمة التي يقيم ضمن دائرة اختصاصها، بالإضافة إلى جواز إقامة الدعوى أمام المحكمة التي حدثت في دائرتها الواقعة المنشئة للفعل المشكو منه. مراعاة من المشرع للمدعي الذي أصابه الضرر ، فلا ضير من أن يحضر المدعى عليه مسبب الضرر إلى محكمة المدعي الأولى بالرعاية .(3)

5-  الدعاوى المستعجلة والإجراءات الوقتية

      تنص المادة (49) على أنه ” تختص محكمة موطن المدعى عليه أو المحكمة المطلوب حصول الإجراء في دائرتها بالدعاوى المتضمنة طلب اتخاذ إجراء وقتي أو مستعجل “.

      وعلى ذلك فإن دعاوى إثبات الحالة ، أو جرد الأموال ، أو وضع الأختام ، أو الحجز التحفظي يكون المدعي فيها بالخيار بين إقامتها أمام محكمة موطن المدعى عليه، أو أمام المحكمة المطلوب حصول الإجراء في دائرتها لكون هذه المحكمة أقرب إلى المكان المراد اتخاذ الإجراء فيه .

6-  الدعاوى التي ترفع على القاصر أو المحجور عليه ومن في حكمهما

      رأينا أن القانون قد جعل موطن القاصر والمحجور عليه والمفقود هو موطن وليه أو وصيه أو القيم عليه أو وكيله (م 5 أصول مدنية وتجارية) وبناء على ذلك فإن الدعاوى التي ترفع على القاصر ومن في حكمه تكون المحكمة المختصة فيها هي المحكمة التي يقع في دائرتها موطن من يمثله قانونا ، هذا إذا كانت المحكمة المختصة وفقا لقواعد الاختصاص المحلي هي محكمة موطن المدعى عليه .

      ومع ذلك إذا بلغ القاصر خمس عشرة سنة وكان مأذونا بالتجارة ، فيجوز له أن يتخذ موطنا بالنسبة للأعمال والتصرفات الداخلة تحت الإذن ، وترفع الدعاوى المتعلقة بهذه الأعمال لدى محكمة موطنه .

7-  الاختصاص الاختياري

      تنص المادة (43) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أنه

  1. يجوز للأطراف الاتفاق على اختصاص محكمة معينة على خلاف القواعد المنصوص عليها في المادة (42) من هذا القانون وفي هذه الحالة يكون الاختصاص لهذه المحكمة .
  2. إذا نص القانون على اختصاص محكمة خلاف المشار إليه في المادة (42) من هذا القانون فلا يجوز الاتفاق مقدما على ما يخالف هذا الاختصاص .

      ويتبين من هذا النص أنه إذا كان الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه أو محل عمله أو المكان الذي نشأ فيه الالتزام، فإن للأطراف أن يتفقوا على اختصاص محكمة أخرى يختاروها ولو لم تكن مختصة مكانيا بنظر الدعوى، وذلك بالنص على ذلك في الاتفاق المبرم بينهم، كما يجوز لهم أن يتفقوا على ترك تحديد المحكمة لمن يرفع الدعوى منهم بشرط ألا يتعسف في استعمال حقه في اختيار المحكمة، فلا يرفع الدعوى أمام محكمة لا يكون له في رفعها أمامها أية مصلحة سوى مجرد النكاية بخصمه وإرهاقه.

  فيجوز في عقد البيع أو عقد الإيجار مثلا أن ينص على أن تختص محكمة معينة غير موطن أي منهما أو محل عمله أو مكان إبرام العقد، في المنازعات الناشئة عن هذا العقد،  ويكون هذا الاتفاق ملزما لأطرافه كما أنه يلزم المحكمة بحيث لا يجوز لها أن تقبل دفعا بعدم اختصاصها. غير أن الاتفاق على اختصاص محكمة معينة لا يعطل الاختصاص الأصيل لمحكمة موطن المدعى عليه وفق القواعد العامة، لأن اختصاص محكمة موطن المدعى عليه هو اختصاص أصيل لا يعطله الاتفاق على اختصاص محكمة أخرى، فينعقد الاختصاص للمحكمة التي حددها الاتفاق أو لمحكمة موطن المدعى عليه فيما عدا الحالات التي يرى المشرع فيها النص على منع الجمع، ويكون المدعي بالخيار بين رفع الدعوى أمام المحكمة المختصة طبقا للاتفاق وبين رفعها أمام المحكمة التي يوجد بدائرتها موطن المدعى عليه.

      أما إذا نص في القانون على اختصاص محكمة معينة بالذات دون غيرها في موضوع معين لاعتبارات خاصة تتعلق بملاءمة نظر الدعوى من محكمة معينة ، وهي اعتبارات يحرص المشرع على مراعاتها كما في الدعاوى العينية العقارية أو دعاوى الإفلاس، فلا يجوز الاتفاق مقدما – أي قبل إقامة الدعوى –  على ما يخالف هذا الاختصاص. وعلة هذا الحظر تكمن في قوة الاعتبارات الخاصة التي دعت المشرع إلى النص على اختصاص محكمة غير محكمة المدعى عليه، من ذلك حماية الطرف الضعيف في الخصومة .

          أما إذا اتفق الخصوم في هذه الحالات بعد رفع الدعوى على جعل الاختصاص لمحكمة أخرى غير مختصة أصلا بنظر الدعوى فهو جائز، لأن مثل هذا الاتفاق لا يؤثر على الاعتبارات الخاصة التي دعت المشرع إلى النص على اختصاص محكمة غير محكمة المدعى عليه، فالطرف الضعيف الذي قصد المشرع رعايته في هذه الحالات لا يكون خاضعا للطرف القوي بعد رفع الدعوى وقيام النزاع، بعكس الحال عند الاتفاق مقدما على مخالفة قواعد الاختصاص ، لذلك نجد المشرع قصر الحظر على الاتفاق مقدما ولم ينص على الحظر بصيغة عامة.

وعلى ذلك إذا أقيمت الدعوى بالمخالفة للقواعد الخاصة بناء على اتفاق سابق، فإن عدم الاعتداد بهذا الاتفاق مشروط بأن يتمسك المدعى عليه بإعمال قواعد الاختصاص عن طريق الدفع بعدم اختصاص المحكمة المرفوع إليها الدعوى وفقا للنظام الذي يقرره القانون لهذا الدفع، وإلا فإن نظر الدعوى من قبل المحكمة يكون صحيحا ولا يجوز للمحكمة أن تقضي بعدم اختصاصها محليا بنظر الدعوى من تلقاء نفسها لعدم تعلق الاختصاص المكاني بالنظام العام، ذلك أن متابعة المدعى عليه لخصومة الدعوى المرفوعة أمامها يكشف عن موافقته اللاحقة على عقد الاختصاص لهذه المحكمة وهو ما يجيزه القانون . فالمحظور هو الاتفاق السابق على رفع الدعوى، كما أنه إذا رفعت الدعوى وفقا لقواعد الاختصاص المحلي المقررة، جاز للخصوم الاتفاق على إحالة الدعوى لمحكمة أخرى ولو لم تكن مختصة وفقا لهذه القواعد بشرط أن لا يتصل موضوع الدعوى بالنظام العام، ولكن هذه الإحالة جوازية تخضع لتقدير المحكمة المرفوعة إليها الدعوى فعلا، فقد تكون هذه المحكمة قد قطعت شوطا كبيرا في نظر الدعوى وترى عدم إحالتها على المحكمة التي اتفق عليها الخصوم.

8-  عدم وجود موطن للمدعى عليه أو محل إقامة في فلسطين

      تنص المادة (50) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد على أنه ” إذا لم يكن للمدعى عليه موطن أو محل إقامة في فلسطين ولم يكن ممكنا تعيين المحكمة المختصة بموجب الأحكام السابقة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعي أو محل إقامته ، فإذا لم يكن للمدعي موطن أو محل إقامة في فلسطين فيكون الاختصاص لمحكمة العاصمة القدس “.

      وقد تناول هذا النص فرضين لاختصاص المحكمة بنظر الدعوى التي تقام على شخص ليس له موطن أو محل إقامة في فلسطين ولم يكن ممكنا تعيين المحكمة المختصة بموجب أحكام الاختصاص الواردة في القانون .

      الفرض الأول : أن يكون للمدعي موطن أو محل إقامة في فلسطين ، وفي هذه الحالة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعي أو محل إقامته .

      الفرض الثاني : أن لا يكون للمدعي موطن أو محل إقامة في فلسطين وفي هذا الفرض يكون الاختصاص لمحكمة العاصمة القدس .


(1) ذهب رأي إلى أن العبرة في تحديد طبيعة الدعاوى المتعلقة بانحلال العقود الواردة على عقار كدعاوى الفسخ والإبطال والتقايل، تكون بالنظر إلى صلتها بالحق العيني، فإذا كانت الصلة مباشرة كانت الدعوى عقارية، أما إذا كانت الصلة غير مباشرة كانت الدعوى منقولة، وبناء على ذلك إذا كان العقد المراد فسخه أو إبطاله أو تقرير التقايل بشأنه مسجلا كانت = = =  الصلة مباشرة بين الدعوى والحق العيني فتكون الدعوى عقارية، أما إذا لم يكن مسجلا كانت الصلة غير مباشرة فتكون الدعوى منقولة وحينئذ يمكن تحديد الاختصاص المحلي. أنور طلبة،موسوعة المرافعات المدنية والتجارية ، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1995، الجزء الأول، صفحة 682.

(2) كان المشرع المصري أكثر توفيقا في المادة 52 من قانون المرافعات من المشرع الفلسطيني عندما نص على أنه: في الدعاوى المتعلقة بالشركات أو الجمعيات القائمة أو التي في  دور التصفية أو المؤسسات الخاصة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها مركز إدارتها سواء أكانت الدعوى على الشركة أو الجمعية أو المؤسسة أم من الشركة أو الجمعية أو المؤسسة على أحد الشركاء أو الأعضاء أم من شريك أو عضو على آخر. 

(3) نقض مدني 1/2003 تاريخ 3/2/2003 ج 1 ص 150.