الفصل الخامس – عوارض الخصومة

المبحث الخامس

ترك الخصومة

      تنص المادة (138) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد على أنه ” يحق للمدعي في غياب المدعى عليه أن يطلب ترك دعواه في أي مرحلة تكون عليها الدعوى ، فإذا كان المدعى عليه حاضرا فلا يجوز للمدعي طلب ترك دعواه إلا بموافقة المدعى عليه ومع ذلك لا يلتفت لاعتراضه إذا كان قد تقدم بطلب أو دفع مما يكون الغرض منه منع المحكمة من نظر الدعوى “.

      وترك الدعوى معناه التنازل عنها والتخلي عن الإجراءات التي تمت فيها، وهو يختلف عن التنازل عن الحق المدعى به، فالتنازل عن الحق يحول دون تجديد الدعوى بعد ذلك ، بينما ترك الدعوى لا يمنع من تجديد الدعوى مرة أخرى .

      ويلجأ المدعي إلى ترك الدعوى إذا تبين له أنه قد رفعها بطريقة معيبة ، كأن يرفعها إلى محكمة غير مختصة وظيفيا ، أو يرفعها للمطالبة بدين لم يحل أجل الوفاء به بعد. أو إذا فطن إلى أنه قد تعجل في رفع الدعوى قبل جمع أدلته وإعدادها بشكل جيد وخشي إذا سار في الدعوى أن يفشل في إثباتها .

ويتم الترك بطلب خطي أو شفاها في الجلسة يثبت في المحضر، وهو يرد على خصومة قائمة ولو لم تنعقد، أي قبل أن يتم تبليغ لائحة الدعوى للمدعى عليه.   ويجوز الترك بالنسبة لكافة الدعاوى لأن نص المادة 138 الذي قرر الترك جاء بصيغة عامة غير مقيدة، ما لم تكن الدعوى متعلقة بالنظام العام كدعوى شهر الإفلاس. كما يجوز ترك الخصومة في أي مرحلة سواء أمام محكمة الدرجة الأولى أم الاستئناف أم النقض .(1) ولكن لا يجوز أن يثار أمام محكمة النقض دفع بأن المطعون ضده قد ترك دعواه قبل الطاعن أمام محكمة الموضوع، لأن هذا يتضمن دفاعا يخالطه واقع لم يسبق للطاعن التحدي به أمام محكمة الموضوع فيعد سببا جديدا لا يجوز لأول مرة أمام محكمة النقض. (2)

وللمدعي إبداء طلب الترك خلال فترة حجز الدعوى للحكم، ويعتبر طلب الترك في هذه الحالة إسقاطا من المدعي لحقه في الاستمرار في إجراءات الخصومة مانعا من إصدار حكم في موضوعها، بحيث إن صدر كان باطلا لصدوره في خصومة منقضية. أما إذا تبين أن المدعى عليه أبدى طلباته طرحت المحكمة طلب الترك ما لم يكن قد أثبت بالمذكرة عند اطلاعه عليها أو بالتبليغ قبوله للترك.

ويكون ترك الدعوى كليا فيتنازل المدعي عن الخصومة جملة، وقد يكون جزئيا يترك المدعي فيه قسما مما يدعيه ، كما لو رفع شخص دعوى بجملة طلبات وقرر أن يقصر دعواه على بعضها ويتنازل مؤقتا عن بعضها الآخر . وكما لو رفع دعوى ضد جملة أشخاص ثم تنازل عن اختصام بعضهم . ويجوز كذلك التنازل عن إجراء من إجراءات الخصومة كطلب سماع شاهد في الدعوى ، أو التمسك بورقة من أوراقها ، أو دفع من الدفوع التي أبداها . وإذا ترك المدعي الأصيل الخصومة فإنها تنقضي بالنسبة للمتدخل الانضمامي ، لأنه ليس للمتدخل في هذه الحالة طلبات خاصة لذلك يترتب على ترك الخصومة سقوط التدخل ، إذ لا يجوز للمتدخل الاعتراض على الترك ما لم يكن دائنا للمدعي انضم إليه وكان يترتب على الترك انقاص الضمان العام مما يعرض حقه للخطر، كما لو ترتب على الترك سقوط الحق المطالب به بالتقادم بينما كان هذا التقادم قد انقطع برفع الدعوى، لما يترتب على الترك من زوال آثار الدعوى ومنها قطع التقادم.

أما إذا كان التدخل اختصاميا أي هجوميا، فإن المتدخل يطالب بحق خاص له في مواجهة طرفي الدعوى، ولا تتأثر طلباته بترك المدعي لدعواه حتى لو قبل المدعى عليه هذا الترك. كما لو رفع المدعي دعوى بصحة ونفاذ عقد البيع ضد البائع له ، وتدخل ثالث في الدعوى طالبا ردها والحكم بتثبيت العقار المباع له ، فطلب المدعي ترك دعواه، ففي هذه الحالة تثبت المحكمة الترك وتستمر بنظر الدعوى حتى الفصل في طلب المتدخل .(1)  ويجب أن لا يكون الحق الذي يدعيه المتدخل مستمدا من أحد طرفي الدعوى ومحظورا عليه التمسك به في مواجهة أي من الطرفين، وفي هذه الحالة يترتب على ترك المدعي دعواه سقوط التدخل. كما لو رفع (أ) دعوى بتثبيت ملكية عقار ضد (ب)  استنادا إلى وضع اليد المدة الطويلة، فتدخل فيها (ج) مختصما للمطالبة بتثبيت ملكيته هو لذات العقار استنادا إلى أنه تلقى ملكيته من (أ) وأن مدة التقادم تكتمل له بضم مدة وضع  يد سلفه (أ) إلى مدة وضع يده ، ثم يقرر (أ) ترك الدعوى. ففي هذه الحالة تقضي المحكمة بإثبات هذا الترك وعدم قبول تدخل (ج) خصما في الدعوى. (2)

      والأصل أن المدعي يستطيع أن يتنازل عن دعواه عندما يشاء لأن الدعوى ملك صاحبها ، فيجوز له ذلك في أية حالة تكون عليها الدعوى حتى الوقت الذي يصدر فيه الحكم الذي تنتهي به . غير أن المشرع لم يجعل المدعي مطلق الحرية في التنازل عن الدعوى ، وذلك لما قد يصيب المدعى عليه من ضرر نتيجة ذلك . فقد يكون من مصلحة المدعى عليه حسم موضوع النزاع بغير إبطاء حتى يطمئن نهائيا على مصير النزاع الموجه إليه ولا يبقى مهددا بدعوى جديدة قد ترفع عليه من المدعي في المستقبل . لذلك منح المشرع المدعى عليه الحق في التمسك بالفصل في الدعوى ليتخلص منها نهائيا ، أو يستقر أمره في شأنها وفي شأن الحق الذي رفعت به . وللمحكمة تقدير مدى مشروعية رفض المدعى عليه للترك ، فإذا تبين لها أنه متعسف في استعمال حقه جاز لها أن تفرض عليه الترك ما دام لم تكن له مصلحة معتبرة في ذلك.

 وإذا تعدد المدعون في خصومة وكان موضوعها قابلا للتجزئة بطبيعته ، فإنه يجوز لبعض المدعين تركها فتنقضي بالنسبة لهم وتبقى قائمة بالنسبة للبعض الآخر ، أما إذا كان موضوع الخصومة لا يقبل التجزئة ، وكذلك في الحالات التي يوجب فيها القانون اختصام أشخاص معينين ، فإن الخصومة يجب أن تبقى بكاملها أو تزول بكاملها .

          وإذا تعدد المدعى عليهم يلزم قبولهم جميعا، فإذا لم يقبل أحدهم وكان موضوع الدعوى يقبل التجزئة،  استمرت الخصومة بالنسبة له وزالت بالنسبة للباقين. كما أنه يجوز للمدعي ترك الخصومة عن بعض المدعى عليهم وبقاءها بالنسبة لبعضهم الآخر. أما إذا كان موضوع الدعوى لا يقبل التجزئة وترك المدعي الدعوى بالنسبة لبعض المدعى عليهم أو المحكوم عليهم فإنه يعتبر تاركا لها بالنسبة للباقين.

          وإذا كانت الدعوى مما يوجب القانون اختصام أشخاص معينين فيها كدعوى الشفعة الواجب رفعها على البائع والمشتري وإن تعددوا، وترك المدعي الدعوى بالنسبة لأحد المدعى عليهم ، أثبتت المحكمة ذلك وقضت بعدم قبول الدعوى لعدم اختصام من يوجب القانون اختصامه فيها ، وهو ما يحول دون رفع دعوى جديدة إذ غالبا ما يكون الميعاد المحدد لذلك قد انقضى.

   ولم يضع قانون أصول المحاكمات ضوابط محددة لتمسك المدعى عليه بالسير في الدعوى ، ومع ذلك فمن الواضح ضرورة أن يكون له مصلحة قانونية في المضي في الدعوى ، فإذا تخلفت مثل هذه المصلحة لا يجوز له التمسك بالسير في الدعوى . وعلى ذلك يجوز للمدعي التنازل عن دعواه بإرادته المنفردة في الحالات الآتية :

  1. إذا قرر ترك الدعوى قبل تبليغ لائحتها للمدعى عليه ، وذلك لأن الخصومة لا تنعقد ولا يباشرها المدعى عليه إلا بعد التبليغ .
  2. إذا لم يكن المدعى عليه قد أبدى طلبات أو دفاع أو دفوع موضوعية . كما لو تغيب أو حضر وطلب التأجيل للاطلاع أو الاستعداد .
  3. إذا كان المدعى عليه قد أبدى طلبات أو دفوع بهدف منع المحكمة من سماع الدعوى والتخلص منها شكلا قبل الدخول في موضوعها ، كالدفع بعدم الاختصاص أو بسقوط الخصومة ، أو بإحالة الدعوى إلى محكمة أخرى ، أو ببطلان لائحة الدعوى، أو بانقضاء الخصومة بمضي المدة ، أو بعدم قبول الدعوى لانتفاء الصفة أو المصلحة، أو الدفع باعتبار الدعوى كأن لم تكن، فترك الدعوى في هذه الحالة يحقق للمدعى عليه غرضه بعدم المضي في سماع الدعوى .
  4. إذا ترتب على الترك عدم جواز تجديد الخصومة لأي سبب كانقضاء الحق الموضوعي بالتقادم، أو سقوط الحق في الدعوى، أو فوات ميعاد الاستئناف، فترك الخصومة في الطعن بعد فوات ميعاد الطعن يتضمن بالضرورة نزولا عن الحق في الطعن.

 وينبغي أن يكون ترك الدعوى من المدعي نفسه أو من وكيل عنه مفوض تفويضا خاصا بذلك. لأن التنازل يحتاج إلى توكيل خاص ولا يغني في هذا الشأن التوكيل العام. ولا تبحث المحكمة الأسباب التي أدت بالمدعي إلى ترك الخصومة وإنما يقتصر بحثها في مدى توافر الشروط اللازمة لذلك، فإن تبين لها توافر هذه الشروط قضت بإثبات ترك المدعي – أو الطاعن- للخصومة، وإلا رفضت الطلب ولو ضمنا بالتصدي للموضوع .

نطاق ترك الخصومة

          يشترط لترك الخصومة ألا يكون موضوع الدعوى متعلقا بالنظام العام ، فلو رفع الدائن دعوى بإشهار إفلاس مدينه التاجر لا يملك بعد ذلك طلب ترك دعواه لأن هذه الدعوى من الدعاوى التي تتعلق بالنظام العام مما لا يعتد فيها بالترك . وكذلك الحال طلب رد القضاة إذا كان الطلب يستند إلى إحدى حالات عدم الصلاحية الواردة في المادة 141 لأن هذه الحالات تتعلق بالنظام العام وللمحكمة إثارتها من تلقاء ذاتها ، لذلك فإن ترك الخصم للطلب لا يحول دون أن تستمر المحكمة في نظره . أما إذا كان طلب الرد مستندا إلى سبب من الأسباب الواردة في المادة 143 فإن للخصم ترك الطلب لأن تقديم هذا الطلب هو أمر جوازي للخصم ولا يتعلق بالنظام العام .

آثار الترك

      تنص المادة (139) على أنه :

  1. يترتب على الترك إلغاء جميع إجراءات الخصومة بما في ذلك إقامة الدعوى ، ويحكم على التارك بالمصاريف .
  2. ترك الخصومة لا يمنع من إقامة دعوى جديدة ما لم يكن الترك مبرئا من الحق المدعى به .

      ويتبين من هذا النص أنه يترتب على ترك الخصومة كليا الآثار التي تترتب على سقوط الخصومة والتي أوردتها المادة (135) أي إلغاء جميع إجراءات الخصومة والآثار المترتبة عليها بما في ذلك لائحة الدعوى ، ويعود الخصوم إلى الحالة التي كانوا عليها قبل رفع الدعوى . ولكن ذلك لا يمس أصل الحق المرفوعة به الدعوى ، فيجوز لمن تنازل عن دعواه أن يقيم دعوى جديدة بنفس الحق ما دام قائما . ويحكم على التارك بالمصاريف لأنه هو الذي تسبب بها برفع الدعوى وبدء الخصومة ثم عدوله عنها .

      أما في الترك الجزئي فيعتبر الإجراء الذي تم التنازل عنه كأن لم يكن .

      ويلاحظ أن ترك الخصومة قد يترتب عليه سقوط الحق المرفوعة به الدعوى إذا كان من الحقوق التي تسقط لفوات مدة تقل عن المدة التي مضت بين رفع الدعوى وتركها . ولا تسقط بالترك الأحكام القطعية الصادرة في الخصومة ولا الإجراءات السابقة على هذه الأحكام، كما لا تسقط الإقرارات الصادرة عن الخصوم أو الأيمان التي حلفوها، ولكن قد تزول بالترك إذا كانت لمصلحة المدعي وشملها الترك صراحة، فتعتبر في هذه الحالة كأن لم تكن. كما يجوز للخصوم التمسك بإجراءات التحقيق وأعمال الخبرة التي تمت ما لم تكن باطلة في ذاتها كما هو الحال بالنسبة للسقوط.

     تنص المادة (140) على أن ” النزول عن الحكم يستتبع النزول عن الحق الثابت به “.

النزول عن الحكم

      من المعلوم أنه متى صدر حكم لا يجوز النزول عن حجيته ، لأن حجية الأمر المقضي من النظام العام . ولكن وفق نص المادة (140) فإن للمحكوم له أن يتنازل عن الحق ذاته الذي يقرره الحكم له ، ويكون النزول صريحا جليا ، فلا يستفاد ضمنا بتراخي المحكوم له في التنفيذ. ومتى تم النزول أنتج أثره في الحال باعتباره إسقاطا ويترتب على ذلك انقضاء الخصومة التي صدر الحكم فيها ، ويمتنع عليه تجديد المطالبة بالحق مرة أخرى ، وتقضي المحكمة بعدم جواز نظر الدعوى من تلقاء نفسها التزاما بقوة الأمر المقضي التي هي من النظام العام .

          ويكون النزول عن الحكم قبل أن يباشر المحكوم له إجراءات تنفيذه ، أو بعد أن بدأ في ذلك وقبل اكتمال التنفيذ، ويستتبع ذلك النزول عن الحق الثابت فيه وإبراء المحكوم عليه منه. أما إذا كان التنازل بعد التنفيذ فإنه يعد تصرفا جديدا وعلاقة جديدة ليس لها صلة بالعلاقة السابقة.           ويجب أن تتوافر في المتنازل أهلية التصرف في الحق المتنازل عنه ، وعن إرادة خالية من العيوب ، وإلا كان التنازل قابلا للإبطال لمصلحته.  وإذا كان المتنازل هو الوكيل بالخصومة فإنه يجب أن يكون لديه تفويض خاص يجيز له ذلك.


(1) وترك خصومة الطعن لا يجوز الرجوع فيه، لأن ترك الطعن يتضمن تنازلا عن الحق في الطعن وهو يلزم صاحبه دون حاجة لقبول يصدر من الخصم الآخر. وإذا قبل ترك الاستئناف الأصلي يترتب على ذلك بطلان الاستئناف الفرعي.

(2) د. أحمد هندي ، هامش 6، ص 816.

(1) أنور طلبة، ج 2 ص 688.

(2) أنور طلبة ، ج 2 ، ص 689.