الفصل السابع – البطلان

رسم المشرع للأفراد في قانون أصول المحاكمات ( المرافعات ) طريق الحصول على حقوقهم أو حمايتها ، ووضع لذلك قواعد وإجراءات ومواعيد رأى أنها تحقق حسن سير العدالة وسرعة الفصل في الدعاوى وصيانة مصالح الخصوم . وعلى ذلك فإن القاعدة في قانون أصول المحاكمات هي قانونية الشكل ، بمعنى أنه يجب كقاعدة عامة على من يلجأ للقضاء أن يتبع الوسيلة التي حددها القانون وليس التي يختارها هو .

          وحتى يضمن المشرع احترام هذه القواعد والإجراءات والمواعيد وتطبيق القانون تطبيقا سليما، قرن ذلك بجزاء يترتب على الإخلال بتلك الإجراءات لحمل الأفراد على اتباعها ، وهذا الجزاء يتمثل في البطلان . فالبطلان هو أهم الجزاءات الإجرائية ، وهو وصف يلحق بالعمل الإجرائي لوجود عيب في هذا العمل ، ويمنع من ترتيب الآثار التي يرتبها القانون على هذا الإجراء لو كان صحيحا ، أي يؤدي إلى عدم إنتاج هذا الإجراء الآثار التي يرتبها القانون على الإجراء الصحيح.

          وقد كان المبدأ المستقر في ظل قانون أصول المحاكمات الحقوقية رقم 42 لسنة 1952 أنه ( لا بطلان بدون نص ) ، فكان القاضي لا يحكم بالبطلان كجزاء إجرائي إلا بناء على نص في القانون يوجب صراحة الحكم بالبطلان ، وكان يكفي أن يتمسك الخصم في الدعوى بنص معين يقرر بطلان إجراء معين حتى يطبق القاضي حكم هذا النص ويحكم ببطلان هذا الإجراء المخالف للنص . وأساس هذا المبدأ أن الآثار التي تترتب على البطلان خطيرة لذلك يجب أن ينفرد المشرع بتحديد حالاته .

          وقد أدى تطبيق هذا المبدأ على إطلاقه إلى تغليب الشكل في بعض الحالات على الحق ، بحيث قد يضيع الحق الثابت نتيجة خطأ في الإجراءات أو نقص في استيفاء البيانات المطلوبة مع أن المشرع رسم هذا الشكل للوصول إلى الحق بسرعة ويسر ، وبذلك قد يؤدي الحكم بالبطلان لمجرد النص عليه دون تقدير لأهمية المخالفة إلى الإضرار بالعدالة التي ينشد المشرع تحقيقها . فالمشرع لا يمكنه أن يضع نظاما دقيقا محكما يزن فيه أهمية كل مخالفة لأوامره ونواهيه ويرتب عليها الجزاء الذي يناسبها . وإعمال هذا المبدأ على إطلاقه يسلب سلطة القاضي في تقرير ما إذا كانت المخالفة تستدعي الحكم بالبطلان ويجبره على تقرير جزاء غير مناسب للعيب الذي شاب الإجراء أو عدم فرض جزاء على مخالفة إجراء رغم كونه إجراء جوهريا ، كما أنه يفسح المجال أمام الخصوم للتمسك بالبطلان تعسفا بقصد عرقلة سير الخصومة وهو ما يخل بحسن سير العدالة .

          لذلك حاولت التشريعات المقارنة إيجاد نقطة توازن بين ضرورة احترام ما يفرضه القانون من شكل للعمل الإجرائي وبين عدم التضحية بالحق من أجل الشكل ، فلا  يهدر الحق الموضوعي نتيجة بطلان الإجراءات التي هي بمثابة وسيلة لحماية الحق ، فلم ترتب البطلان على كل عيب يشوب العمل وإنما حددت الحالات التي يحدث فيها البطلان ، وفي الوقت ذاته استعانت بوسائل تهدف إلى التقليل من حالات البطلان والحد من آثاره ، وذلك بالتوسع في حالات البطلان الجوازي وفتح الباب أمام إمكانية تصحيح الإجراء الباطل .

          وقد تبنت التشريعات في هذا المجال واحدا من مبدأين :

المبدأ الأول : لا بطلان بغير ضرر . فلا يكفي وفق هذا المبدأ مجرد مخالفة الشكل حتى يحكم بالبطلان وإنما يجب أن يثبت أن هذه المخالفة أضرت بمصالح الخصم المتمسك بالبطلان ، وأساس هذا المبدأ أن الغاية من القانون هي حماية مصلحة معينة، فإذا لم يلحق هذه المصلحة ضرر يعتبر الحكم بالبطلان مخالفا للعدالة ومنافيا لإرادة المشرع . وقد أخذ بهذا المبدأ قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني رقم 24 لسنة 1988 فنص في المادة 24 منه على أنه ( يكون الإجراء باطلا إذا نص القانون على بطلانه أو إذا شابه عيب جوهري ترتب عليه ضرر للخصم . ولا يحكم بالبطلان رغم النص عليه إذا لم يترتب على الإجراء ضرر للخصم . )

المبدأ الثاني : لا بطلان إذا تحققت الغاية من الإجراء . وأساس هذا المبدأ أن الشكل غير مطلوب لذاته بل لأنه يرمي إلى تحقيق غاية معينة ، لذلك فإن مناط صحة الإجراء أو بطلانه هو تحقق الغاية من الوضع الشكلي الذي حصلت مخالفته أو عدم تحققها ، فالمشرع عندما ينص على وجوب اتباع شكل معين أو أن تتضمن الورقة بيانا معينا إنما يرمي إلى تحقيق غاية يحققها هذا الشكل أو البيان ،  فإذا تحققت هذه الغاية رغم تخلف الشكل أو البيان المطلوب امتنع الحكم ببطلان الإجراء ولو نص القانون صراحة على البطلان  لأن التمسك بالبطلان رغم تحقق الغاية يصبح لا ضرورة له ، و يعد إغراقا في الشكليات وتعسفا في استعمال الحق لأنه لا يتمسك به بقصد تحقيق الغاية التي أعطي الحق من أجلها فهذه الغاية قد تحققت ، كما أنه يصبح أداة في يد سيء النية من الخصوم الذي يريد عرقلة الخصومة .  أما إذا تخلفت الغاية تعين الحكم ببطلان الإجراء ولو لم ينص القانون على ذلك .  وقد أخذ بهذا المبدأ قانون المرافعات المصري في المادة 20 منه ونقل عنه المشرع الفلسطيني في المادة 23 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد حيث نصت على أنه ( 1- يكون الإجراء باطلا إذا نص القانون صراحة على بطلانه ، أو إذا شابه عيب لم تتحقق بسببه الغاية من الإجراء . 2- لا يحكم بالبطلان رغم النص عليه إذا ثبت تحقق الغاية من الإجراء ) .    

الفرق بين البطلان والانعدام

          لكي يمكن أن نصف العمل القانوني بالصحة أو بالبطلان يجب أن يكون موجودا، لذلك يجب أن نفرق بين ما يلزم لوجود العمل ( أركان وجوده ) وبين ما يلزم لإنتاج آثاره القانونية لصحته ( شروط صحته ) وبالتالي أن نفرق بين عدم الوجود ( الانعدام) والبطلان . وفي هذا المجال فإن الإجراء إذا فقد ركنا من أركان وجوده يصبح معدوما ، بينما إذا فقد شرطا من شروط صحته فإنه يكون باطلا . ويترتب على هذه التفرقة أن الإجراء المعدوم لا تزول عنه حالة الانعدام بالرد عليه بما يفيد اعتباره صحيحا أو بالقيام بعمل أو إجراء باعتباره كذلك ، لأن المعدوم لا يخلق من جديد بمثل هذه التصرفات ، كما لا يصحح بالحضور أو بحجية الشيء المحكوم به ، ولا يصحح مهما طال عليه الأجل ، فالمعدوم لا تلحقه أية حصانة ، والمبني على المعدوم يعد معدوما . لذا يقال إن المعدوم لا ينتج أي أثر بينما الباطل ينتج أثره إلى أن يحكم ببطلانه ، والوقع أن الباطل أو المعدوم تظل آثاره قائمة من الناحية العملية إلى أن يحكم بالإلغاء.

      وقد نظم قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الفلسطيني الجديد أحكام البطلان في المواد 22 وحتى 26 منه مقتبسا أحكامه من قانون المرافعات المصري ومسايرا للتشريعات الحديثة التي لا تشجع البطلان وتعمل على تفاديه بوسائل مختلفة ، مراعيا في ذلك التوازن بين اعتبارين متعارضين ، الاعتبار الأول ضرورة احترام قواعد المرافعات كقواعد قانونية ملزمة بحيث يعد الإجراء باطلا إذا تخلف عنصر الشكل فيه ، والاعتبار الثاني وهو نابع من طبيعة الإجراءات كوسيلة لحماية الحق ، وهو الخشية من أن يؤدي البطلان لأي مخالفة شكلية إلى ضياع الحقوق وتعطيل حمايتها ، لذلك تطلب في المخالفة الشكلية التي يترتب عليها البطلان أن تكون على قدر من الأهمية بحيث لا يتم فرض البطلان على كل مخالفة ولو كانت تافهة .

      وفي كلامنا عن البطلان فإننا سوف نبين أنواعه ، وحالاته ، وطرق التمسك به، وآثار الحكم بالبطلان ، ثم وسائل الحد من آثار البطلان في المباحث التالية .

المبحث الأول

أنواع البطلان

      ينقسم البطلان في قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد إلى نوعين:

النوع الأول : بطلان خاص أو متعلق بالمصلحة الخاصة ، وهو يعد كذلك إذا ترتب على مخالفة قاعدة مقررة لحماية مصلحة خاصة لأحد الخصوم ، ويمكن القول إن غالبية الأشكال في قانون أصول المحاكمات مقررة للمصلحة الخاصة ، ومثالها بيانات ورقة التبليغ وخطوات التبليغ عدا توقيع مأمور التبليغ (المحضر)، فهي مقررة لمصلحة المراد تبليغه .

والنوع الثاني : بطلان عام ، وهو يترتب على مخالفة قاعدة مقررة لحماية المصلحة العامة أي متعلقة بالنظام العام . ومثالها القواعد المتعلقة بالنظام القضائي كقواعد صلاحية القاضي التي تنظم الشروط اللازمة لوجوده وصحته ، وكذلك القواعد المتعلقة بصلاحية أعوان القضاء ، وذلك لأنها تستهدف مصلحة عامة هي حسن سير القضاء .

أهمية التفرقة بين البطلان الخاص والبطلان العام .

  1. إذا كان البطلان خاصا فلا يجوز التمسك به إلا من الخصم الذي شرع البطلان لمصلحته (م 24/1)، فقد يرى من المفيد له رغم ما لحق الإجراء من عيب عدم التمسك ببطلانه . فالمطلوب تبليغه وحده هو الذي يتمسك ببطلان التبليغ بسبب تخلف بيان من بياناته أو عدم مراعاة خطواته ، وإذا تعدد المدعى عليهم وكان التبليغ لأحدهم معيبا لا يجوز أن يتمسك بالبطلان إلا المدعى عليه الذي كان تبليغه معيبا .

     ولا يجوز أن يتمسك هذا الخصم بالبطلان إذا كان قد تسبب فيه (م 24/1)، ولا يشترط أن يكون قد وقع منه غش، بل يكفي أن يكون هو أو من يعمل باسمه قد تسبب في المخالفة ، كما لو كان المبلغ إليه قد نقل موطنه بعد بدء الخصومة ولم يبلغ المحكمة بذلك ، فإن التبليغ على عنوانه القديم يعد صحيحا (م 10) ولا يجوز له التمسك بالبطلان لتبليغه في غير موطنه . وكذلك لا يجوز الدفع ببطلان شهادة الشاهد لعدم أهليته للشهادة من الخصم الذي طلب سماع شهادته ، ولا يجوز للدائن الذي أخطر مدينه بالوفاء أن يطلب بطلان الإخطار لعدم التوقيع عليه .

     أما إذا كان البطلان عاما ، فيجوز أن يتمسك به أي طرف من أطراف الخصومة ، كما يجوز أن يتمسك به الخصم الذي تسبب فيه .

  • إذا كان البطلان خاصا فلا يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ، بل يلزم أن يتم التمسك به أمامها على نحو صحيح ممن يجوز له ذلك . أما إذا كان البطلان عاما فيجب على المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها .
  • إذا كان البطلان خاصا فإن التمسك به يعد دفعا شكليا يجب تقديمه مع الدفوع الشكلية قبل إبداء أي طلب أو دفاع في الدعوى أو دفع بعدم القبول وإلا سقط الحق فيه (م 91/1)، كما يسقط حق الطاعن فيه إذا لم يرد في لائحة الطعن .

    أما إذا كان البطلان عاما فيجوز التمسك به في أي حالة كانت عليها الإجراءات ، وأمام أي درجة من درجات التقاضي .

  • إذا كان البطلان خاصا فإنه يزول إذا تنازل عنه صراحة أو ضمنا الخصم الذي شرع لمصلحته (م 24/2)، والتنازل صراحة يكون شفاهة في الجلسة أو بمذكرة تقدم للمحكمة وتبلغ للخصم . أما التنازل الضمني فيكون بأي سلوك من الخصم يدل دلالة قاطعة على إرادته النزول عن البطلان ، ومثال ذلك مناقشة الخصم موضوع الإجراء الموجه ضده دون التمسك ببطلانه ، أو الرد عليه بما يدل على اعتباره صحيحا .

      ولكن لا يجوز النزول عن البطلان مقدما إذا كان النزول بصفة عامة لأنه ينطوي على جهالة بما يتم التنازل عنه ، بمعنى أن الخصم يتنازل عن حقه في التمسك بالبطلان دون أن يكون على علم بأسبابه التي ربما لو علم بها ما أقدم على هذا التنازل ، ولكن يكون الاتفاق صحيحا إذا كان التنازل محددا ببطلان عمل معين ولسبب معين (1). أما إذا كان البطلان عاما فلا يجوز التنازل عنه .

  • إذا كان البطلان خاصا فلا يجوز للنيابة العامة أن تتمسك به ولو كانت طرفا منضما في الخصومة ، أما إذا كان البطلان عاما فيجوز لها ، بل يجب عليها التمسك بالبطلان .

(1) د. مفلح القضاة ص 292 ، د. فتحي والي ، نظرية البطلان في قانون المرافعات، منشأة المعارف بالإسكندرية، الطبعة الأولى، ص 558 .