الفصل السابع – البطلان

المبحث الخامس

وسائل الحد من آثار البطلان

      تحاول التشريعات الحديثة تفادي الحكم بالبطلان ، وفضلا عن إجازة النزول عن التمسك بالبطلان صراحة أو ضمنا إذا كان بطلانا خاصا ، وعدم الاعتداد بالبطلان إذا تحققت الغاية من الإجراء على النحو الذي رأيناه ، فإن المشرع حاول الحد من آثار البطلان عن طريق تصحيح الإجراء الباطل ، وتحوله ، وانتقاصه .

أولا : تصحيح الإجراء الباطل

      تنص المادة (25) على أنه ” يجوز تصحيح الإجراء الباطل ولو بعد التمسك بالبطلان على أن يتم ذلك في الميعاد المقرر قانونا لاتخاذ الإجراء ، فإذا لم يكن للإجراء ميعاد مقرر في القانون حددت المحكمة ميعادا مناسبا لتصحيحه ولا يعتد بالإجراء إلا من تاريخ تصحيحه “.

      يكون الإجراء باطلا إذا نقصه أحد المقتضيات التي يتطلبها القانون لصحته أو جاء أحد هذه المقتضيات على غير الوجه الذي يريده القانون ، فإذا أمكن تكملة الإجراء بحيث تتوافر فيه جميع المقتضيات القانونية ، فإنه يعد عملا صحيحا .

      وهذا النص يجيز تصحيح الإجراء المعيب أو الناقص عن طريق تكملته  أي بزوال العيب الذي شابه، سواء كان البطلان عاما أم خاصا ، فإذا كانت المطالبة باطلة لصدورها عن شخص ناقص الأهلية يجوز تصحيحها بحضور وليه أو وصيه لتمثيله . وإذا كانت باطلة لعدم توقيع محام عليها يجوز تصحيحها بأن يقوم محام بتوقيعها في الجلسة .

      ويعد الإجراء قد اتخذ في هذه الحالة من وقت التصحيح ، ولا يرجع إلى تاريخ القيام بالإجراء الأصلي الذي لحقه التصحيح ، لأن العبرة هي بوجود الإجراء كاملا صحيحا .

      ويشترط القانون لهذا التصحيح شرطان:

  1. أن يضاف إلى العمل ما ينقصه ، وذلك بإضافة الشرط الناقص الذي أدى إلى العيب في الإجراء ، سواء كان العيب أو النقص في شرط موضوعي كعيب الأهلية أو التمثيل القانوني كما لو رفعت الدعوى من شخص ناقص الأهلية أو على شخص ناقص الأهلية  فإن حضور وليه أو وصيه لتمثيله يصحح إجراءات الدعوى ، وإذا كانت لائحة الدعوى باطلة لعدم توقيع محام عليها يجوز تصحيحها بأن يقوم محام بتوقيعها في الجلسة  .
  2. أن تتم التكملة في الميعاد الذي ينص عليه القانون للقيام بالعمل الإجرائي ، وقد فرقت المادة 25 بين حالتين ، الحالة الأولى أن يكون للإجراء ميعاد معين وجب أن يحصل التصحيح بالتكملة في الميعاد  فإذا قدمت لائحة استئناف دون توقيع محام يجوز تصحيح ذلك  بتوقيع محام عليها  خلال مدة الطعن بالاستئناف إذا كان الميعاد لم ينته بعد  ، وإذا كان التبليغ باطلا يجوز تجديد التبليغ في الميعاد المقرر للتبليغ ،  فإذا انقضى الميعاد لا يجوز التصحيح بالتكملة . والحالة الثانية  ألا يكون للإجراء ميعاد مقرر قانونا ، في هذه الحالة تحدد المحكمة ميعادا مناسبا لتصحيحه، فإذا لم يصحح في الميعاد الذي حددته المحكمة فإنها تحكم ببطلان الإجراء . فإذا كان المدعى عليه غائبا وتبين للمحكمة بطلان التبليغ تؤجل نظر الدعوى إلى جلسة تالية وتقرر إعادة تبليغه تبليغا صحيحا ، وإذا بلغت لائحة الدعوى لقاصر وحضر وليه أو وصيه في الجلسة المحددة لنظر الدعوى فإن حضوره هذا يصحح البطلان .

وإذا توافر الشرطان صحح العمل ولو تمت التكملة بعد التمسك بالبطلان ،  على أنه ليس للمحكمة أن تأمر بالتصحيح من تلقاء نفسها دون طلب من الخصم مهما كان العيب الذي يشوب العمل ، ولا يعتد بالإجراء إلا من تاريخ تصحيحه فليس للتصحيح أثر رجعي . 

على أنه يجدر التنبيه إلى أنه إذا قدمت لائحة استئناف غير موقعة من محام مزاول ، وتنبه الخصم لذلك وأحضر محاميا للتوقيع عليها منه قبل فوات ميعاد الاستئناف إلا أن الموظف المودع لديه أصل اللائحة امتنع عن تسليمها له – وهذا من حقه – فإنه لا مناص في هذه الحالة من أن يرفع استئنافا آخر قبل انتهاء ميعاد الاستئناف ويتدارك ما فات من عيب ، ثم يتنازل عن استئنافه الأول الذي لم يوقع لائحته محام .

ويجوز إجراء التصحيح على سبيل الاحتياط إذا ظن أن عيبا قد لحق به ، ولكن ذلك لا يمنع من الحكم باعتبار الإجراء الأول صحيحا وتملك المحكمة رغم القيام به أن تعتد بالعمل الإجرائي الأول متى رأت خلوه من العيوب .

والشرط الوحيد للقيام بالتصحيح أن يكون ممكنا ، أي أن لا يكون مستحيلا والاستحالة قد تكون مادية كأن تهلك الأشياء موضوع عمل الخبير بعد بطلان تقريره ، كما قد تكون استحالة قانونية كانقضاء الميعاد المحدد لمباشرة العمل . ويتم التصحيح في ذات مرحلة التقاضي التي اتخذ فيها هذا الإجراء الباطل ،  غير أنه لا يجوز تصحيح الإجراء إذا صدر الحكم بالبطلان ولو لم يكن نهائيا .

      وقد أجاز القانون تصحيح الإجراء ولو بعد التمسك ببطلانه ، طالما تم التصحيح في الميعاد المقرر للإجراء قانونا أو قضاء .

      وإذا لم يحدد القاضي ميعادا لتصحيح الإجراء ، فإنه يجب لإمكان التصحيح أن يتم في ذات مرحلة التقاضي التي اتخذ فيها هذا الإجراء(1) .

تصحيح البطلان مع بقاء العيب الذي من شأنه أن يبطل العمل الإجرائي :

          يتم تصحيح البطلان في هذه الحالة بوسيلتين :

الوسيلة الأولى : التنازل عن التمسك بالبطلان غير المتعلق بالنظام العام صراحة أو ضمنا :

  1. النزول الصريح : ويكون بإعلان الخصم إرادته صريحة بالنزول عن حقه في التمسك بالبطلان شفاهة في الجلسة في مواجهة الطرف الآخر أو كتابة في مذكرة تبلغ للخصم .
  2. النزول الضمني : ويستفاد من سلوك الخصم بما يدل ضرورة على إرادة من قام به في النزول عن التمسك بالبطلان . ، فالنزول الضمني عن الحق المسقط له يجب أن يكون بقول أو عمل أو إجراء دال بذاته على ترك الحق دلالة لا تحتمل الشك مثال ذلك الرد على الإجراء بما يدل على أنه اعتبره صحيحا ، أو القيام بعمل أو إجراء آخر يفيد أنه متنازل عن البطلان ، من ذلك أن حضور خلف الخصم المتوفى يزيل مصلحته في التمسك بالبطلان لعدم القضاء بانقطاع الخصومة ، وحضور الخصم الجلسة يسقط حقه في التمسك ببطلان تبليغه بالحضور لتلك الجلسة . ومناقشة الخصم تقرير الخبير مناقشة موضوعية دون أن يثير ما وقع من بطلان في إجراءات الخبير، ولقاضي الموضوع سلطة تقديرية في هذا الشأن ولا  يخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض إلا في وجوب بيان أسباب معقولة وكافية لاستنتاجه .

وإذا تم النزول عن البطلان صراحة أو ضمنا فإنه يقع باتا فلا يجوز العدول عنه أو التحلل من آثاره . كما أنه إذا ترتب على النزول تصحيح العمل الباطل فإن هذا التصحيح يترتب بأثر رجعي فيعتبر العمل الإجرائي صحيحا منذ القيام به .

الوسيلة الثانية : تصحيح البطلان بوقائع قانونية لاحقة ، وهذا التصحيح يرجع إلى نص القانون وليس إلى الإرادة . ذلك أن المشرع حدد وقائع معينة في الخصومة إذا حدثت إحداها ترتب عليها سقوط  الحق في التمسك بالبطلان ، وبهذا تسير الخصومة دون أن تكون مهددة في مرحلة متقدمة منها ببطلان عمل تم في مراحلها الأولى . وهذه الوقائع ترتب أثرها بمجرد تحققها بصرف النظر عن إرادة الخصم ولا يجوز القياس عليها أو التوسع في تفسيرها . مثالها المادة 91 التي تنص على وجوب إبداء الدفوع الشكلية قبل أي طلب أو دفاع أو دفع بعدم القبول ، وكذلك يزول البطلان الذي يشوب الحكم إذا انقضت مواعيد الطعن فيه حيث يصحح الحكم كأثر لحجية الأمر المقضي ، كما يجب على المتمسك ببطلان التبليغ بالحضور أن يتخلف عن الحضور ، فإذا حضر رغم العيب الذي يشوب الورقة اعتبر متنازلا عن البطلان  . أما إذا حضر في جلسة تالية من تلقاء نفسه أو بناء على ورقة تبليغ أخرى في ذات الدعوى أو في دعوى أخرى معينة للنظر في ذات الجلسة  فإن حقه في التمسك بالبطلان لا يسقط  .

ثانيا : تحول الإجراء الباطل

      تنص المادة (26/1) على أنه ” إذا كان الإجراء باطلا وتوفرت فيه عناصر إجراء آخر فيعتبر صحيحا باعتبار الإجراء الذي توفرت عناصره “.

      وفكرة تحول الإجراء مقتبسة من فكرة تحول العقد ، غير أنه يشترط لتحول العقد الباطل إلى عقد صحيح أن تكون نية المتعاقدين قد انصرفت إلى إبرام العقد الآخر ، بينما لا يعتد القانون بنية القائم بالإجراء لأن الإجراء القانوني ليس تصرفا قانونيا ، ولذا لا يشترط هذا الشرط بالنسبة للإجراءات القضائية وعلى ذلك يشترط لتحول الإجراء شرطان :

  1. أن يكون الإجراء باطلا لتخلف مقتضى أو أكثر من مقتضياته ، أي أن يكون هناك إجراء مشوب بالبطلان لأي سبب من الأسباب.
  2. أن تكون المقتضيات الباقية مقتضيات إجراء آخر يعرفه القانون (1)، أي أن تتوافر في ذات الإجراء عناصر من شأنها أن تجعله إجراء صحيحا بعد استبعاد العناصر المشوبة بالبطلان.

      ومثال تحول الإجراء الباطل ، أن يقدم طلب عارض في المطالبة الأصلية ، ثم يحكم ببطلان المطالبة الأصلية ، فإنه يترتب على هذا الحكم بطلان الطلب العارض ، ولكن إذا كان الطلب العارض قد قدم بالإجراءات المعتادة لرفع الدعوى ، أي أودع قلم كتاب المحكمة وتم تبليغه على يد مأمور التبليغ (المحضر) فإنه يتحول إلى مطالبة أصلية وتستمر الخصومة للفصل فيه .

    وكذلك الاستئناف المقابل إذا كان الاستئناف الأصلي باطلا لأي سبب ، حيث يعتبر كأن لم يكن وبالتالي فإن بطلان الاستئناف الأصلي يؤدي إلى بطلان الاستئناف المقابل، ولكن يتحول الاستئناف المقابل الباطل إلى استئناف صحيح إذا توافرت فيه عناصر الاستئناف الأصلي بأن رفع بالإجراءات المعتادة للاستئناف الأصلي وفي الميعاد القانوني له . وكذلك الحال إذا تقرر شطب الاستئناف الأصلي أو اعتباره كأن لم يكن. وتحول الطلب العارض إلى طلب أصلي إذا كان مستوفيا شروط الطلب الأصلي في حال الحكم ببطلان لائحة الدعوى الأصلية   ، وتحول حلف اليمين الحاسمة الباطل لعيب شكلي إلى إقرار قضائي صحيح ،  واعتبار لائحة تجديد الدعوى المشطوبة دعوى جديدة متى استوفت بيانات لائحة الدعوى .

وتقدير كفاية العناصر التي تؤدي إلى تحول الإجراء الباطل إلى إجراء صحيح من مسائل القانون التي يخضع فيها قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض .

ثالثا : انتقاص الإجراء الباطل

      تنص المادة 26/2 على أنه ” إذا كان الإجراء باطلا في شق منه فيعتبر هذا الشق وحده باطلا ما لم يكن الإجراء غير قابل للتجزئة “.

      وهذه الفكرة مأخوذة أيضا من فكرة انتقاص العقد ، ويفترض الانتقاص أن الإجراء مركب من عدة أجزاء بعضها صحيح وبعضها الآخر معيب وكانت هذه الأجزاء قابلة للانقسام أو التجزئة ، فلا يلحق البطلان سوى الجزء المعيب وتبقى الأجزاء الأخرى صحيحة. ذلك أن الانتقاص من حيث الأجزاء يتفق مع طبيعة العمل القانوني المركب ، فالعمل الإجرائي مكون من عدة أعمال بسيطة ، فإذا بطل أحد هذه الأعمال فمن الطبيعي ألا يمتد هذا البطلان إلى الأعمال الأخرى إذا كانت مستقلة عنه “(1)).

      مثال ذلك الحكم الذي يقضي في طلبين ، كالحكم بفسخ العقد والتعويض عن الضرر ، فلو جاء الحكم بالفسخ مسببا تسبيبا كافيا والحكم بالتعويض دون تسبيب ، كان شق الحكم المتعلق بالفسخ صحيحا وشقه المتعلق بالتعويض باطلا واجب الإلغاء عن طريق الطعن فيه(2). وكذلك إذا كان الحكم باطلا وكان قد فصل في أكثر من موضوع ، وطعن المحكوم عليه بالنسبة لأحدها فقط ، وحكمت المحكمة بالبطلان ، فإن الحكم المطعون فيه يعد صحيحا بالنسبة للموضوع الذي لم يطعن فيه ، وباطلا بالنسبة للموضوع الذي طعن فيه وقضي فيه بالبطلان ، ما دام الموضوعان غير مرتبطين ارتباطا لا يقبل التجزئة . وإذا تعدد المدعى عليهم وانقطع سير الخصومة بالنسبة لأحدهم دون اختصام من قام مقامه ، أدى ذلك إلى بطلان الإجراءات اللاحقة على الانقطاع ومنها الحكم وذلك بالنسبة لمن قام مقام من تحقق في شأنه سبب الانقطاع ، وتظل الإجراءات اللاحقة صحيحة بالنسبة للباقين .

      وكما أن انتقاص العقد لا يتم إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع باطلا ، فإن الشق الصحيح من الإجراء لا يحكم بصحته إذا كان الإجراء بسيطا أو لا يقبل التجزئة أو الانقسام أو يوجب القانون اختصام أشخاص معينين كما في دعوى الشفعة فإن بطلان الإجراء بالنسبة لأحد الخصوم يترتب عليه بطلانه بالنسبة للباقين فيحكم ببطلان الإجراء كله في هذه الحالة .


(1) د. مفلح القضاة ص 293 .

(1) د. فتحي والي ، المرجع السابق ص 651 .

(1) ) د. فتحي والي ، المرجع السابق ص 655 .

(2) د. وجدي راغب ص 316 .