القسم الأول: التنظيم القضائي الفلسطيني (المحاكم والاختصاص)

الباب التمهيدي

المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها

التنظيم القضائي

تمهيد

يقوم التنظيم القضائي في الدولة الحديثة على أصول هامة تعد المبادئ الأساسية في التنظيم القضائي ومنها :

  1. الدولة مصدر القضاء .
  2. استقلال السلطة القضائية .
  3. المساواة أمام القضاء .
  4. مجانية القضاء .
  5. علانية الجلسات .
  6. التقاضي على درجتين .
  7. حصول الإجراءات في مواجهة الخصوم .
  8. مبدأ اشتراك الخصوم والقاضي في تسيير الدعوى .
  9. مبدأ تركيز الخصومة .

ونتناول كل واحد من هذه المبادئ بكلمة موجزة .

أولا : الدولة مصدر القضاء

تتولى الدولة إقامة العدل بين الناس عن طريق القضاء والتنفيذ . والقضاء هو الهيئة التي تعهد إليها الدولة بفض النزاع بين الأفراد والجماعات . ويقوم بتنفيذ أحكام القضاء موظفون ملحقون بالهيئة وتحت إشراف القضاء تسمى دائرة التنفيذ / الإجراء.

وتستأثر الدولة بتنظيم القضاء وأدائه على إقليمها ، فلا يجوز لدولة أو هيئة أجنبية أن تقيم قضاء لها على إقليم دولة أخرى وإلا كان ذلك انتقاصا من سيادتها الدولية . كما لا يجوز لأية جماعة أن يقيموا لهم قضاء مستقلا عن قضاء الدولة وإلا كان ذلك انتقاصا من سيادتها على شعبها ، ويطلق على هذه القاعدة “إقليمية القضاء ” .

ولكن القضاء لا يحتكر فض المنازعات بين الأفراد ، بل يجوز للأفراد اللجوء إلى التحكيم وفق التنظيم القانوني الذي وضعه المشرع لذلك في قانون التحكيم رقم 3 لسنة 2000 ، الذي يبين متى يجوز اللجوء إلى التحكيم ، ومتى يمتنع ذلك . وإجراءات التحكيم ، وأسباب الطعن في قرار هيئة التحكيم ، وكيفية تنفيذ هذا القرار .

ثانيا : استقلال السلطة القضائية

تعهد الدولة عادة بالوظيفة القضائية إلى هيئات تسمى المحاكم ، ويطلق على المحاكم في مجموعها السلطة القضائية ، وفي فضها للمنازعات ينحصر عمل المحكمة في تحقيق الوقائع وتطبيق القانون ، ثم تصدر بناء على الوقائع الثابتة وبالتطبيق لأحكام القانون عليها ، حكما قضائيا تحدد به حق الخصوم .

وتختص السلطة القضائية بحق القضاء في جميع المواد ، وعلى جميع الأشخاص ، ويترتب على ذلك – وفقا لمبدأ استقلال القضاء – عدم جواز قيام السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدولة بالفصل في الخصومات التي تنشأ بين الأفراد ، كما لا يجوز لهما تعديل الأحكام التي تصدرها المحاكم بل إن هذه الأحكام تفرض عليهما . كما لا يجوز لرجال الحكومة التدخل لدى القضاة . كما ويمتنع على السلطة القضائية القيام بوظيفة غير تطبيق القانون على المنازعات المطروحة أمامها.

وقد أكد القانون الأساسي المعدل للسلطة الوطنية الفلسطينية(1) على استقلال السلطة القضائية في المادة 97 منه بقولها : السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، ويحدد.) كما نصت المادة 98 منه على أن

القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة “. وكذلك نصت المادة (1) من قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 على أن : السلطة القضائية مستقلة ، ويحظر التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة . والمادة (2) منه بقولها ” القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون(2). وزيادة في ضمان استقلال السلطة القضائية نص قانون السلطة القضائية في المادة 3 منه على أن تكون للسلطة القضائية موازنتها الخاصة تظهر كفصل مستقل ضمن الموازنة العامة السنوية للسلطة الوطنية الفلسطينية، يتولى مجلس القضاء الأعلى إعداد مشروعها وإحالته إلى وزير العدل لإجراء المقتضى القانوني وفقا لأحكام قانون تنظيم الموازنة والمالية العامة ، كما يتولى المجلس مسؤولية الإشراف على تنفيذها .

ولما كان استقلال القضاء لا يعني فصل السلطة القضائية عن غيرها من سلطات الدولة بصفة مطلقة، فقد حرص المشرع على وضع قواعد تكفل للقضاة الطمأنينة في عملهم، وتحميهم من تدخل رجال الحكومة حتى يحكم القاضي وفق القانون وما يمليه عليه ضميره واقتناعه . وهذه القواعد تفرض ضمانات تتعلق بتعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتأديبهم وعزلهم ، كما تتعلق بكيفية مقاضاتهم إذا أخلوا بواجباتهم إخلالا جسيما، وعهد بكل ذلك إلى المجلس القضائي المنصوص عليه في قانون تشكيل المحاكم سواء النظامية أم الشرعية .

ثالثا : المساواة أمام القضاء

للمواطنين كافة الحق في الالتجاء إلى القضاء دون تمييز بينهم بسبب اللغة أو الجنس أو اللون . لذا نصت المادة السادسة من الدستور الأردني على أنه ” الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين ” . كما أكدت المادة (101) منه على أن ” المحاكم مفتوحة للجميع ومصونة من التدخل في شؤونها” .

وقد نصت على ذلك أيضا المادة (9) من القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية بقولها ” الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة ” .

ويعتبر مبدأ المساواة من أهم المبادئ التي يقوم عليها النظام القضائي لأنه يحقق ثقة الناس في القضاء ويجعله موضع طمأنينتهم .

رابعا : مجانية القضاء

يقصد بمجانية القضاء أن من يلجأ إلى القضاء لا يدفع أجرا للقاضي ، وأن أفراد الهيئة القضائية يتلقون رواتبهم وأجورهم من الدولة . فالقضاء في النظم الحديثة يعد خدمة عامة تستوجب أن تتحمل خزانة الدولة رواتب القضاة وليس الخصوم.

ولا تعني مجانية القضاء عدم تحمل المتقاضين أية أعباء مالية عند التجائهم إلى القضاء ، بل يدفع المدعي رسوما عند إقامة الدعوى يتحملها في النهاية الخصم الذي يخفق في إثبات ما يدعيه .

ولا يتنافى دفع الرسوم مع مبدأ مجانية القضاء طالما أن هناك نصوصا قانونية توفر المساعدة القضائية لمن يحتاجها، ومن ذلك نص المادة (5) من نظام رسوم المحاكم الشرعية رقم 2 لسنة 1951 التي تنص على أنه ” إذا أثبت شخص للمحكمة عجزه عن دفع الرسوم بصورة موجبة للقناعة الكاملة، يجوز للمحكمة أن تقرر تأجيل دفعها ” . فإذا ظهر في أي دور من أدوار المحاكمة أن الشخص الذي تقرر تأجيل استيفاء الرسوم منه قادر على دفعها، فللمحكمة وفق المادة (6) أن تقرر وقف الإجراءات إلى أن تدفع الرسوم المستحقة . كما أنه وفق المادة (7) إذا لم ينجح المدعي في دعواه فللمحكمة أن تأمر بدفع الرسوم المؤجلة إذا تحقق لها يساره، وإذا نجح فتحكم المحكمة على المدعى عليه بالرسوم .

كما يجوز أن يقدم طلب تأجيل دفع الرسوم للمحاكم النظامية عملا بأحكام قانون رسوم المحاكم النظامية رقم 1 لسنة 2003 مرفقا بالمستندات التي تؤيده، وللمحكمة سلطة تقديريه في قبول الطلب أو رفضه .

خامسا : علنية الجلسات

يقصد بعلنية الجلسات أن يحصل تحقيق الدعوى والمرافعة فيها في جلسات يكون لكل شخص حق الحضور فيها، وأن ينطق بالأحكام في جلسة علنية، وأن يسمح بنشر ما يدور في الجلسات كما يسمح بنشر الأحكام التي تصدرها السلطة القضائية .

وتعد علنية الجلسات من الضمانات الأساسية للتقاضي لأنها تمكن الجمهور من متابعة الخصومة وتكفل بذلك نوعا من الرقابة الشعبية على أعمال الهيئة القضائية ، وتبعث الاطمئنان في نفوس المتقاضين ، وتحث القضاة على الدقة و الأناة في أعمالها.

غير أن هناك بعض القضايا يكون للعلنية فيها تأثير سلبي على المتقاضين والغير لذلك نص المشرع صراحة على جواز إجرائها سرا .

وقد نصت المادة (105) من القانون الأساسي على أنه ” جلسات المحاكم علنية إلا إذا قررت المحكمة أن تكون سرية مراعاة للنظام العام أو الآداب وفي جميع الأحوال يتم النطق بالحكم في جلسة علنية ” كما نصت المادة (3) من قانون تشكيل الحاكم النظامية رقم 5 لسنة 2001 على أنه ” تكون جلسات المحاكم علنية إلا إذا قررت المحكمة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الخصوم عقدها سرية مراعاة للآداب أو للمحافظة على النظام العام ويكون النطق بالحكم في جميع الأحوال في جلسة علنية“. وهو مطابق لنص المادة 15 من قانون السلطة القضائية لسنة 2002.

والأصل أن المرافعات تكون شفوية ، وهذا المبدأ يكمل المبدأ السابق ، لأنه يحقق رقابة الجمهور على ما يسري أمام القضاء ، ولا يتنافى هذا المبدأ مع السماح للخصوم بتقديم دفوع ووثائق خطية طالما أنها في الغالب تتلى علنا .

على أن النطق بالحكم يجب أن يكون في جلسة علنية دائما حتى لو نظرت الدعوى في جلسة سرية ، وذلك حرصا على إطلاع الرأي العام على الحكم .

سادسا : التقاضي على درجتين

تنقسم المحاكم إلى درجتين ، وتقام الدعوى أولا إلى محكمة تسمى محكمة الدرجة الأولى ، ثم يكون للخصوم حق التظلم من حكمها بعرض النزاع أمام محكمة الدرجة الثانية من جديد عن طريق الاستئناف لتفصل فيه بحكم نهائي .

ومبدأ التقاضي على درجتين من المبادئ العامة التي تقوم عليها النظم القضائية المعاصرة ، وهو يحقق فائدة مزدوجة ، إذ يحث قضاة محكمة الدرجة الأولى على العناية بفحص ادعاءات الخصوم وصحة تطبيق القانون تحقيقا للعدالة . كما يمكن الخصوم من طلب تصحيح أحكام محكمة الدرجة الأولى التي أصدرتها عن خطأ أو جهل أو تقصير بعرض النزاع من جديد أمام محكمة أعلى درجة وقضاتها أكثر عددا أو أكثر خبرة . ويمكنهم أيضا من تدارك ما فاتهم من أوجه دفاع أمام محكمة أول درجة .

ولكن يلاحظ أن المشرع الفلسطيني وإن كان قد أخذ بمبدأ التقاضي على درجتين كقاعدة عامة ، إلا أنه لاعتبارات خاصة لم يجز بالنسبة لبعض الدعاوى الطعن في الحكم الصادر بالاستئناف ، بل جعل الفصل فيها من محكمة الدرجة الأولى نهائيا ، من ذلك المادة (39) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية معدلة بالقانون رقم 5 لسنة 2005 التي تنص على أنه يكون حكم محكمة الصلح قطعيا في الدعاوى المتعلقة بمبلغ نقدي أو مال منقول إذا كانت قيمة المدعى به لا تتجاوز ألف دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونا .(3)

سابعا : حصول الإجراءات في مواجهة الخصوم

من المبادئ الأساسية وجوب حصول الإجراءات في مواجهة الخصوم ، أي وجوب إخبار كل خصم بما يجريه الخصم الآخر لكي يتمكن من الدفاع عن مصالحه .

لذلك يوجب القانون على المدعي أن يعلن المدعى عليه بالطلبات الموجهة إليه، ويلزم كل خصم تمكين خصمه من الإطلاع على الأوراق التي قدمها تأييدا لدعواه . وأن لا يبني القاضي حكمه إلا على الأقوال التي سمعها والمستندات التي قدمت إليه في أثناء المرافعة . وأن يمتنع بعد إقفال باب المرافعة عن سماع أقوال من أحد طرفي الخصومة أو قبول أية ورقة لم يطلع عليها خصمه .

ثامنا : مبدأ اشتراك الخصوم والقاضي في تسيير الدعوى

كان الاتجاه التقليدي السائد في الفقه أن الخصوم هم الذين يتولون تسيير الدعوى من البدء في المطالبة القضائية والسير في إجراءاتها، وتقديم الأدلة أو وقفها أو تركها بإرادتهم . أما القاضي فدوره سلبي يقتصر على مراعاة اتباع قواعد الأصول، وتحقيق الأدلة، والفصل فيما يقدمه إليه الخصوم، وهو ما يعبر عنه بحياد القاضي . فكان القاضي بين الخصوم كالحكم في مباراة يراقب سير المباراة ويعلن نتيجتها في النهاية .

غير أن الاتجاه الحديث في الفقه يبرز حقيقة أن القضاء وظيفة عامة ، لذا لا يمكن أن يترك نشاطه لهوى الأفراد ، بل يلزم أن يكون للقاضي دور إيجابي في سير الدعوى ، وهذا الدور لا يتنافى مع حياده .

وقد كان الموقف السلبي للقاضي سائدا في ظل قانون أصول المحاكمات الحقوقية الملغى، غير أن قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد أخذ بالاتجاه الحديث في الفقه، ومنح القاضي دورا إيجابيا في توجيه سير الدعوى وتحقيقها ، فخوله سلطة إخراج أي من المدعى عليهم في الدعوى ، وأن يدخل فيها من يرى إدخاله لإظهار الحقيقة أو لمصلحة العدالة (م82) ، كما خوله وقف السير في الدعوى (م126) . كما منحه قانون البينات الجديد رقم 4 لسنة 2001 دورا كبيرا في الإثبات، بحيث أصبحت القاعدة أنه يجوز للمحكمة أن تأمر من تلقاء نفسها باتخاذ أي إجراء من إجراءات الإثبات عدا الحالات التي ينص القانون صراحة على ضرورة طلب الخصم لهذا الإجراء، مثل الادعاء بالتزوير (م59) ، وطلب توجيه اليمين الحاسمة .

فأصبح للمحكمة سلطة تحقيق أو استجواب خصم (م123) ، أو إجراء المعاينة (م150) ، أو ندب خبير (م156) من تلقاء نفسها . ولها أن تطلب أوراقا أو مستندات من الدوائر الرسمية (م35)، أو من الغير (م 34) وأن تأمر بالإثبات بشهادة الشهود في الأحوال التي يجوز فيها ذلك ( م 40و80) .

وهكذا لم يعد توجيه الدعوى حكرا على الخصوم ، بل أصبح القاضي يشاركهم فيه بعد أن أصبحت مهمته البحث عن الحقيقة .

تاسعا : مبدأ تركيز الخصومة

يقصد بهذا المبدأ سرعة الفصل في الخصومة ، حتى يصل الحق إلى صاحبه في وقت مناسب . ومن مظاهر هذا المبدأ .

  1. إلزام الخصوم إرفاق صور عن مستنداتهم المؤيدة مع لائحة الدعوى واللائحة الجوابية ، حتى يطلع كل طرف على مستندات الطرف الآخر فيعد دفاعه ولا يفاجأ بما يطيل أمد المحاكمة (م 53و62).
  2. إلزام الخصوم بحصر نقاط الخلاف وأن تكون البينة على هذه النقاط فقط (م120).
  3. حصر الشهود وبيان الوقائع التي سيشهد عليها كل واحد منهم (م 120) .
  4. سقوط الحق في القيام بالإجراء إذا لم يتخذ في الميعاد أو الترتيب الذي نص عليه القانون ، كسقوط حق الخصم في إبداء الدفع الشكلي بعد إبدائه دفعا موضوعيا (م 90-92) .
  1. المحافظة على وحدة الخصومة بمنع الطعن في الأحكام التي لا تنهي الخصومة إلا مع الطعن في الحكم المنهي لها ، حتى لا تتمزق أوصال القضية بين المحاكم المختلفة (م 192).

(1) نشر القانون الأساسي في العدد الممتاز من الوقائع الفلسطينية الصادر بتاريخ 7/7/2002 . ثم نشر القانون الأساسي المعدل في العدد الممتاز رقم 2 بتاريخ 19/3/2003 . وتم تعديل بعض أحكامه سنة 2005 ونشر في العدد 57 بتاريخ 18/8/2005 .

(2) نشر في العدد 40 من الوقائع الفلسطينية بتاريخ 18/5/2002 .

(3) عدلت هذه المادة بالقانون رقم 5 لسنة 2005 ، وكانت قبل تعديلها تنص على أن… ويكون حكمها نهائيا إذا كانت قيمة الدعوى لا تجاوز ألف دينار …