محاضرات في عقد التأجير التمويلي

أ.د. عثمان التكروري

تمهيد

وجد عقد التأجير التمويلي في الأساس لتلبية حاجات ومتطلبات المشاريع التي تحتاج إلى التمويل، عندما عجزت طرق التمويل التقليدية عن تلبية حاجات المشاريع الاقتصادية، سواء منها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، للتمويل في ظل نقص أو ضعف التمويل الذاتي أو عدم توافره، وعدم إمكان تقديم الضمانات الكافية التي تطلبها مؤسسات الإقراض التقليدية.(2) فهو يتيح لتلك المشروعات فرصة لتمويل احتياجاتها من الأصول؛ أو تجديدها في حالة ضعف التمويل الذاتي؛ أو في حالة الظروف الطارئة. وبذلك يحقق مزايا للاقتصاد الوطني تتمثل في نقل التكنولوجيا ورفع مستوى دخل الفرد والقضاء على البطالة ورفع مستوى المعيشة.

فعندما ينوي مشروع شراء معدات جديدة (منقولات أو عقارات)؛ أو تجديد تجهيزاته ومعداته، قد يحتاج إلى مبلغ كبير من المال غير متوفر لديه، لذلك يقدم طلبا إلى إحدى المؤسسات المالية المتخصصة في التأجير التمويلي؛ سواء كانت بنكا أم شركة تأجير تمويلي، لتمويل شراء أو توريد تجهيزات أو بناء عقارات، وبعد دراسة المؤسسة لهذا الطلب وقبوله تشرع بإبرام عقد التأجير التمويلي. وهذا العقد يتطلب من المؤسسة إبرام عقد توريد أو بيع أو مقاولة مع طرف ثالث لتأمين الشيء المطلوب للمستأجر. وتقتضي طبيعة هذا العقد أن تتملك المؤسسة هذا المال وأن تمنح المؤسسة المستأجر خيار تملكه في نهاية مدة العقد، لذلك فإن أحكامه مستمدة من العقود المعروفة كالبيع والإيجار والوكالة والوعد بالبيع.

وتقوم فكرة هذا العقد على التمويل العيني، بحيث يستطيع المتعاقد من خلاله الحصول على ما يحتاجه من منقولات أو عقارات دون أن يستنفد موارده المالية في ثمن هذه الأموال.

فالتأجير التمويلي هو نظام تمويلي يقوم فيه المؤجر (الممول) بتمويل شراء أصل رأسمالي بطلب من المستأجر (مستثمر) بهدف استثماره لمدة لا تقل عن (75%) من العمر الافتراضي للأصل، مقابل دفعات دورية (مقابل التأجير، على أن تكون دفعات مقابل التأجير قد غطت تكلفة الأصل وهامش ربح محدد)، مع احتفاظ المؤجر بملكية الأصل وحتى نهاية العقد، وحق المستأجر في خيار شراء الأصل عند نهاية مدة التأجير، أو تجديد عقد التأجير مرة أخرى. أو إعادة الأصل للمؤجر في نهاية مدة التأجير.

وهذا النظام فرضته الضرورة الاقتصادية في الوقت الحاضر، فالتطور السريع في الاقتصاد والصناعة يتطلب أن تقوم المشاريع بإدخال أحدث خطوط الإنتاج والحصول على الأجهزة الحديثة والمتطورة للحفاظ على وجودها واستمرارها وقدرتها على المنافسة، وهو ما يحتاج إلى قدرة مالية عالية، قد تؤدي إلى تجميد رأس المال وفقدان السيولة المالية إذا لجأ المشروع إلى موارده الذاتية، في حين أن الاقتراض من مؤسسات الإقراض التقليدية يحمله أعباء وقيودا وضمانات شخصية وعينية تعيق عمل المشروع أو تعرضه لمخاطر السداد والإفلاس.

ولذلك ظهر نظام التأجير التمويلي في منتصف القرن الماضي عام 1952 في الولايات المتحدة وتم تطبيقه من خلال مؤسسات كبيرة كان أولها شركة التأجير التمويلي المستقلة (3) وبعد نجاح هذه الشركة وعدم تعرضها لمخاطر منح الائتمان أسست شركات أخرى في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان ، كما أخذت فرنسا بهذه الفكرة ولكن ظهرت بصورة تنظيمية مختلفة عن النظام القانوني الأمريكي ؛ فعرف ب ( Credit bail ) وتم تأسيس أول شركة ( Loca France )عام 1962، فضلا عن أنشطة المصارف القائمة. (4)

وعلى المستوى الدولي أعد المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص (5) مشروع معاهدة دولية لتنظيم نشاط التأجير التمويلي للمنقولات؛ ووقعت هذه الاتفاقية في مدينة أوتاوا في كندا بتاريخ 28/5/1988 ودخلت حيز التنفيذ بعد إيداع تصديق كل من إيطاليا وفرنسا ونيجيريا. ولم تنضم إليها كل من مصر والأردن وفلسطين. (6)

وفي الدول العربية، بقيت أهمية هذا النظام محدودة لعدم وجود صناعات ضخمة، غير أنها بدأت تشعر بأهمية هذا النظام ومزاياه في التنمية والقضاء على التخلف الاقتصادي، ومنها مصر حيث تم تنظيم التأجير التمويلي بالقانون رقم 95 لسنة 1995؛ وتم تعديله بالقانون رقم 16 لسنة 2001 ثم صدرت بعد ذلك اللائحة التنفيذية لهذا القانون. وكذلك الأردن حيث تم تنظيم التأجير التمويلي بالقانون رقم 16 لسنة 2002.(7) أما في فلسطين فقد صدر القرار بقانون رقم (6) لسنة 2014 بشأن التأجير التمويلي، ونشر في العدد 107 من الوقائع الفلسطينية بتاريخ 28/5/2014.

أهمية الموضوع:

  1. تساهم عمليات التأجير التمويلي في النهوض الاقتصادي للمجتمعات؛ وذلك بسهولة الحصول على التمويل، فهو يمثل وسيلة ناجعة لتمويل الاستثمارات والمشاريع الإنتاجية بأسلوب يحقق أهداف المتعاقدين، ويوفر فرص عمل ويقلل من البطالة. وهو بذلك يمكن أن يعطي دفعة قوية لنمو وتطور النشاط الاقتصادي في فلسطين نتيجة تطوير المشاريع الإنتاجية المختلفة وزيادة عددها والتي تعد عماد التنمية الشاملة.
  2. لعمليات التأجير التمويلي أهمية كبيرة بالنسبة للمستأجرين، حيث تزيد من إمكانية الحصول على عقد ائتمان طويل الأجل للتمويل اللازم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، لما توفره لها من الاستفادة من الأصول دون حاجة إلى تجميد ما يوجد من رؤوس الأموال. أو استئجار الأصول في حال عدم وجود رأسمال، ثم دفع قيمة الأقساط من الناتج الوارد من هذه الأصول، وبذلك يتمكن المستأجر من تنمية ماله ودفع التكاليف التي على عاتقه.
  3. يفصل بين الملكية والاستخدام وخلق تعاون وثيق بين المؤجر والمستأجر، حيث يوفر إمكانية الحصول على أصول رأسمالية بتمويل شبه كامل واستخدامها دون الحاجة إلى امتلاكها أو دفع مبالغ كبيرة، والحصول على أحدث التقنيات ذات الأثمان العالية دون الحاجة إلى شرائها، ما يؤدي إلى خلق سوق إنتاجي لا استهلاكي، وزيادة القدرة الإنتاجية لتغطية حاجة السوق المحلي وقدرته على المنافسة في السوق العالمي.
  4. إن من أهم مميزات عقد التأجير التمويلي هو ما يوفره للبنوك والشركات المتخصصة في هذا المجال لأن احتفاظ المؤجر بالملكية يجعله يتغاضى عن كثير من الضمانات التي يتطلبها التمويل العادي؛ حيث تعتبر الملكية ضمانا لاسترداد الأصل، مع حصولهم على الأرباح، وذلك لأن الملكية في حالة استعمل المستأجر خيار التملك لا تنتقل إلا بعد استيفاء جميع الحقوق على ما سيأتي بيانه. كما أنه لا يتحمل الأضرار التي تصيب الغير، كما أن تكاليف الصيانة يتحملها المستأجر خلافا للقاعدة العامة في عقد الإيجار.
  5. للمؤجر استرداد العين المؤجرة من تفليسة المستأجر، ولا يجوز لدائني المستأجر الحجز عليها، ولا يجوز للمستأجر التصرف بها وإلا اعتبر مبددا ومرتكبا لجريمة إساءة الائتمان.

تقسيم الدراسة: نتناول عقد التأجير التمويلي في ثلاثة فصول

الفصل الأول: التعريف بعقد التأجير التمويلي، والتمييز بينه وبين ما يختلط به، وأنواعه.

الفصل الثاني: انعقاد عقد التأجير التمويلي

الفصل الثالث: انقضاء عقد التأجير التمويلي.

(1)(1) يسمى أيضا الائتمان الإيجاري، والتمويل بالاستئجار، والاعتماد الإيجاري، وعقد الإيجار التمويلي، أو الليزنغ ( Leasing ). وقد اختلف الفقه في تاريخ نشأته، فذهب بعضهم إلى أنه يعود إلى حضارة البابليين وخاصة قانون حمورابي، أو إلى عهد السومريين في مدينة (أور) في العراق قبل سنة 2000 قبل الميلاد، ثم انتقلت الفكرة إلى القانون الروماني. وذهب بعضهم الآخر إلى أن الفكرة تعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد حيث عرف في مصر القديمة عندما كان يقوم أحد الأغنياء بتأجير أدواته أو عقاراته إلى الآخرين لمدة محدودة وأجرة معلومة. وذهب رأي فريق ثالث إلى أن المجتمعات الإسلامية عرفته حيث كان التاجر يقوم باستثمار أمواله لدى المضاربين مقابل شهادة أسهم من أجل تجنب الربا، ويتم ذلك بمقتضى عقد تحدد فيه التزامات كل طرف. محمد عايد شوابكة، عقد التأجير التمويلي، دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2011، صفحة 15.

(2)(2) محمد عايد الشوابكة، المرجع السابق صفحة 58.

(3)(3) Independent Leasing Company عن طريق أحد رجال الصناعة يسمى D.P.Boothe Junior الذي كان يملك مصنعا صغيرا لإنتاج المواد الغذائية المحفوظة، حيث طلب منه الجيش الأمريكي تزويده بكميات كبيرة مما ينتجه بمناسبة الحرب الكورية عام 1950، ولم يكن لمصنعه القدرة الإنتاجية لتلبية هذه الصفقة ، ولم يكن يملك رأس المال الكافي لشراء معدات لتوسيع مصنعه وتلبية الصفقة يمكن أن وفشل في الحصول على قرض لشراء ما يحتاجه من معدات ، وفكر في استئجار المعدات ولم يوفق في العثور على مؤجر، وبعد دراسة قام بها توصل إلى أن احتراف تأجير الأصول الإنتاجية أو المعدات لأي مشروع يمكن أن يكون مصدر ربح يفوق ما يحققه مصنعه الصغير الذي عجز عن تلبية صفقة الجيش، واستطاع أن يقنع مجموعة من رجال العمال بالفكرة التي انتهت إلى تأسيس هذه الشركة كأول شركة سنة 1952.

(4)(4) محمد عايد شوابكة، المرجع السابق، صفحة 16.

(5)(5) The International for the unification of private law

(6)(6) محمد عايد شوابكة، المرجع السابق، صفحة 18.

(7)(7) نشر في العدد رقم 4542 من الجريدة الرسمية بتاريخ 1/5/2002 في الصفحة 1644.