محاضرات في ارتباط الدعاوى وأثره على وحدة الخصومة المدنية

الفصل الرابع

تأثير الارتباط على قواعد الاختصاص

ينقسم الاختصاص القضائي إلى اختصاص وظيفي؛ واختصاص نوعي؛ واختصاص قيمي؛ واختصاص محلي. ويختلف تأثير الارتباط على قواعد الاختصاص بحسب نوع الاختصاص وطبيعته، ونوع الدعاوى؛ وقيمتها.

وقد يكون تأثير الارتباط إيجابيا؛ عندما يمد اختصاص محكمة الطلب الأصلي إلى خارج نطاق اختصاصها القانوني؛ لكي تتمكن من نظر الطلب المرتبط، لذلك يتحدث الفقه عن امتداد قانوني لاختصاص المحكمة نتيجة الارتباط.

وقد يكون تأثيرا سلبيا، ويكون ذلك عندما يقدم إلى محكمة الطلب الأصلي؛ طلب عارض يخرج عن اختصاصها المطلق، ولا تستطيع الفصل في الطلب الأصلي وحده دون المساس بحسن سير العدالة، ففي هذه الحالة يوجب عليها القانون أن تحيل الطلبين معا إلى المحكمة المختصة بالطلب العارض.

وهدف المشرع في الحالتين هو الحفاظ على وحدة الخصومة المدنية؛ وعدم توزيع الاختصاص بنظرها على أكثر من محكمة؛ تلافيا للإضرار بالعدالة؛ وتعارض محتمل بين الأحكام في الدعاوى المرتبطة.

المطلب الأول

تأثير الارتباط على الاختصاص الوظيفي

الاختصاص الوظيفي هو نصيب كل جهة قضائية من ولاية القضاء، وتحدد قواعده جهة القضاء الواجب رفع النزاع أمامها . (1)

والقاعدة في الاختصاص الوظيفي هي أن قاضي الدعوى هو قاضي الدفع، وتشمل هذه القاعدة جميع وسائل الدفاع، سواء كانت دفوعا إجرائية أم دفوعا موضوعية؛ أم دفعا بعدم القبول، وكذلك دعاوى التقرير الفرعية التي يتمسك فيها المدعى عليه بوجود رابطة قانونية أوسع من تلك التي يتمسك بها المدعي؛ أو متعارضة معها ؛ وسواء كانت وسائل الدفاع إيجابية أم سلبية.

ومن النتائج التي تترتب على هذه القاعدة فيما يتعلق بالاختصاص أنها تخول محكمة الطلب الأصلي نظر أي دفع ولو كان يثير مسألة تخرج عن اختصاصها العادي إذا رفعت إليها كدعوى أصلية، ولكن ترد على هذه القاعدة استثناءات تتعلق بالمسائل الأولية التي يثيرها الخصوم أمام المحكمة.

ويذهب الفقه الغالب إلى تقسيم المسائل الأولية إلى مسائل أولية خاصة؛ وهي المسائل التي تخرج عن اختصاص محكمة تابعة لجهة من جهات المحاكم لتدخل في اختصاص محكمة أخرى تابعة لذات الجهة، وسوف نعرض لهذه المسألة عند الكلام عن تأثير الارتباط على الاختصاص النوعي والاختصاص القيمي.

ومسائل أولية عامة، وهي المسائل التي تثير اختصاص جهة قضائية أخرى. فإذا دفع أحد الخصوم أمام القضاء المدني بمسألة أولية تدخل في اختصاص جهة قضائية أخرى؛ سواء كانت من اختصاص القضاء الجنائي أم القضاء الإداري؛ أم محكمة خاصة؛ أم المحاكم الشرعية؛ أم الدينية، فيجب على المحكمة المدنية أن تؤجل الفصل في الدعوى الأصلية لحين الفصل في المسألة الأولية من الجهة المختصة بها.

ولكن لا تلتزم المحكمة بالتأجيل إلا إذا كان الفصل في المسألة الأولية لازما للفصل في الدعوى، بمعنى أن تكون هناك صلة ارتباط وتبعية بين الدعوى الأصلية والمسألة الأولية. أما إذا كان الحكم في المسألة الأولية لا يؤثر على الفصل في الدعوى الأصلية؛ وكان القصد من إثارتها الكيد وعرقلة سير الدعوى، فإن المحكمة لا تلتزم بوقف الدعوى وتمضي نحو الفصل فيها.

كما أنه إذا كانت المحكمة غير مختصة بنظر موضوع الدعوى؛ فإنها تحكم بعدم الاختصاص ولا تلتزم بتأجيل الفصل في الدعوى الأصلية لحين الفصل في المسألة الأولية من جهة القضاء المختص.

المطلب الثاني

تأثير الارتباط على الاختصاص النوعي

قواعد الاختصاص النوعي تحدد نوع الدعاوى التي تختص بها المحكمة؛ بالنظر إلى طبيعة الرابطة القانونية محل الحماية القانونية، بصرف النظر عن قيمتها أو أهميتها، فهي تحدد نصيب الطبقة الواحدة من طبقات جهة قضائية معينة من المنازعات التي يجوز لها الفصل فيها.

وتعد قواعد الاختصاص النوعي من النظام العام؛ لأنها تقوم على اعتبارات متعلقة بالمصلحة العامة، فالمشرع عندما يحدد اختصاص محكمة ما بنوع معين من الدعاوى؛ إنما يفعل ذلك بالنظر إلى ما يتوافر لدى تلك المحكمة من ضمانات وخبرات اكتسبتها نتيجة لتخصصها في هذا النوع من الدعاوى. (1)

وبالنسبة للمحاكم النظامية؛ تعد محكمة البداية هي المحكمة ذات الولاية العامة بين محاكم الدرجة الأولى، بمعنى أنها المحكمة المختصة بنظر جميع الدعاوى الحقوقية ( المدنية والتجارية) والجزائية، باستثناء الدعاوى التي يجعلها المشرع من اختصاص محكمة الصلح. وقد أكد المشرع هذه الولاية العامة لمحكمة البداية في المادة 14 من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 5 لسنة 2001 التي نصت على أنه ( تنعقد محكمة البداية من قاض فرد في الأحوال الآتية: …. ب- للنظر في كافة الدعاوى المدنية الخارجة عن اختصاص محاكم الصلح مهما بلغت قيمتها)، وكذلك في المادة 41 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2001 التي نصت على أنه (تكون محكمة البداية صاحبة الولاية العامة في نظر جميع الدعاوى والطلبات التي لا تدخل في اختصاص محكمة الصلح).

تأثير الارتباط على الاختصاص النوعي لمحكمة البداية:

تطبيقا لقاعدة الولاية العامة لمحكمة البداية؛ فإنها تختص بنظر جميع الطلبات العارضة والمرتبطة، ولو كانت تلك الطلبات تخرج عن اختصاصها العادي لو قدمت إليها في صورة طلبات أصلية.

ويشترط لاختصاصها بتلك الطلبات؛ أن تقدم إليها بمناسبة قيام دعوى أصلية أمامها، وثبوت اختصاصها بتلك الدعوى الأصلية. لأن الاختصاص بالطلبات العارضة يرتبط باختصاصها بالدعوى الأصلية واستمراره لها.

تأثير الارتباط على اختصاص محكمة الصلح:

منح المشرع محكمة الصلح اختصاصا نوعيا محددا، ونظرا لهذا الاختصاص المحدد؛ فإنها لا تختص بالفصل في الطلب العارض والمرتبط ؛ إذا تجاوز نصاب اختصاصها القيمي؛ أو كان يخرج عن اختصاصها النوعي، وفي ذلك نصت المادة 40/1 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أنه ( 1- لا تختص محكمة الصلح بالحكم في الطلب العارض أو الطلب المرتبط بالطلب الأصلي إذا كان بحسب قيمته ونوعه لا يدخل في اختصاصها).(1)

فإذا قدم لها طلب عارض يخرج عن اختصاصها النوعي أو القيمي، كانت وفق المادة 40/2 من قانون الأصول المدنية والتجارية بين أحد أمرين:

الأمر الأول: أن تحكم في الطلب الأصلي وحده وتحيل الطلب العارض إلى محكمة البداية المختصة، إذا لم يترتب على الفصل بين الطلب الأصلي والطلب العارض ضرر بسير العدالة. ويتحقق هذا الضرر إذا كان من شأن الفصل بين الطلبين أن يؤثر على قدرة الخصم على الإثبات؛ أو قدرة القاضي على تحقيق الطلب؛ أو يعوقه عن الوصول إلى الحقيقة.

الأمر الثاني: وجوب إحالة الطلبين الأصلي والعارض أو المرتبط إلى محكمة البداية المختصة؛ إذا كان الفصل بين الطلب الأصلي والطلب العارض يؤدي إلى الإضرار بسير العدالة. وفي هذه الحالة نجد أن الطلب العارض هو الذي يجذب الطلب الأصلي؛ خلاف الوضع العادي الذي يجذب فيه الأصل الفرع.

ويلاحظ أن الإحالة لا تجوز إلا في حالة عدم الاختصاص القيمي أو النوعي لمحكمة الصلح بنظر الطلب العارض. أما إذا كان الطلب العارض بحسب قيمته ؛ أو نوعه؛ يدخل في اختصاص محكمة صلح أخرى، فيجوز لمحكمة الصلح التي تنظر الطلب الأصلي؛ أن تمد اختصاصها بالفصل في الطلب العارض والمرتبط؛ على حساب الاختصاص المحلي لمحكمة صلح أخرى.

(1)(1) لا تثور مشكلة الاختصاص الوظيفي إلا في الدول التي تأخذ بتعدد جهات القضاء، أما الدول التي تأخذ بوحدة النظام القضائي كإنجلترا مثلا، فلا تعرف هذه المشكلة؛ لأنه لا توجد لديها سوى جهة قضائية واحدة تختص بنظر كافة المنازعات المدنية والإدارية والجنائية.

(1)(1) يترتب على اعتبار قواعد الاختصاص النوعي من النظام العام بعض النتائج يمكن إيجازها في الآتي:

1- لا يجوز للخصوم الاتفاق على مخالفة القواعد المنظمة للاختصاص النوعي؛ وإذا وقع الاتفاق يكون باطلا.

2- يجب على المحكمة أن تقضي بعدم اختصاصها النوعي من تلقاء نفسها عند سكوت الخصوم عن إثارة هذا الدفع، أو عند موافقتهم على طرح النزاع على محكمة غير مختصة نوعيا.

3- يجوز لأي من الخصوم الدفع بعدم الاختصاص النوعي للمحكمة في أي حالة تكون عليها الدعوى؛ ولو أمام محكمة النقض.

4- يجب على النيابة العامة إذا تدخلت في الدعوى أن تطلب الحكم بعدم اختصاص المحكمة بسبب نوع الدعوى.

5- إلا أن الحكم الصادر من محكمة غير مختصة نوعيا يحوز الحجية أمام محاكم الجهة التي أصدرته؛ ومحاكم الجهات الأخرى، لأن حجية الأمر المقضي تسمو على قواعد النظام العام المتعلقة بالاختصاص النوعي، فلا يصح إهدار هذه الحجية بمقولة أن المحكمة خرجت عن اختصاصها النوعي.

(1)(1) الصواب ( أو نوعه)