محاضرات في ارتباط الدعاوى وأثره على وحدة الخصومة المدنية

الفصل الخامس

الارتباط ومحكمة النقض

تتصل محكمة النقض بفكرة الارتباط من ناحيتين: الأولى مدى جواز التدخل والإدخال أمامها. والثانية تتعلق بمدى رقابتها على سلطة قاضي الموضوع في تقديره وتكييفه للارتباط.

المبحث الأول

التدخل والإدخال في خصومة النقض

الطعن بالنقض طريق طعن غير عادي له طبيعة خاصة؛ مستمدة من الهدف الذي من أجله أنشئت محكمة النقض؛ وهو المحافظة على وحدة تفسير القواعد القانونية في أنحاء الدولة، إعمالا لمبدأ مساواة الأفراد أمام القانون، ومراقبة تطبيق المحاكم للقانون الموضوعي والإجرائي معا.

لذلك فإن التدخل والإدخال أمام محكمة النقض يقتصر على من كان طرفا في الخصومة محل الطعن بالنقض، أما الغير فإنه طبقا للوضع السائد في فلسطين، لا يجوز تدخله أو اختصامه أمام محكمة النقض. (1)

كما أن تدخل الخصوم وإدخالهم أمام محكمة النقض محدد بحالات معينة وردت في المادة 200 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية حيث نصت على أنه “إذا كان الحكم صادرا في موضوع غير قابل للتجزئة أو في التزام بالتضامن أو في دعوى يوجب القانون فيها اختصام أشخاص معينين جاز لمن فوت ميعاد الطعن من المحكوم عليهم أو قبل الحكم أن يطعن فيه أثناء نظر الطعن المرفوع في الميعاد من أحد زملائه منضما إليه في طلباته فإن لم يفعل أمرت المحكمة الطاعن باختصامه في الطعن، وإذا رفع الطعن على أحد المحكوم لهم في الميعاد يجب اختصام الباقين ولو بعد فواته بالنسبة إليهم”.

ويتبين من هذا النص أن المشرع ذكر حالات ثلاث أجاز فيها للمحكوم عليه الذي فوت ميعاد الطعن أو قبل الحكم أن ينضم لمن طعن في الحكم في الميعاد، وأوجب اختصامه إن لم يطلب الانضمام، كما أوجب اختصام باقي المحكوم لهم إذا رفع الطعن على أحدهم في الميعاد ولو بعد فواته بالنسبة إليهم، وذلك حتى يسري الحكم الصادر في الطعن في حقهم، وهذه الحالات هي:(2)

  1. حالة عدم التجزئة، مثل حق ارتفاق مقرر لعقار أو على عقار مملوك على الشيوع لعدة أشخاص. وذلك لأن طبيعة الحق نفسه وما يقتضيه عدم قابليته للتجزئة، تستوجب حتما أن يكون الحكم الصادر في الدعوى واحدا بالنسبة لجميع ذوي الشأن؛ لاستحالة تنفيذ أحكام متعارضة في مسألة غير قابلة للتجزئة.
  2. التضامن، ويشترط لاستفادة الخصم من هذا الاستثناء أن يكون مختصما في الخصومة التي صدر فيها الحكم المطعون فيه، ويكفي أن يطلب التضامن من المحكمة، ولا يشترط أن يصدر الحكم قاضيا بالتضامن.(1)
  3. الدعاوى التي يوجب القانون اختصام أشخاص معينين فيها، كدعوى الشفعة، حيث يجب اختصام بائع العقار المشفوع فيه والمشتري منه. فهذه الدعاوى يعاملها المشرع معاملة الدعاوى في حالة عدم التجزئة؛ حتى لا تتعارض الأحكام في الطلب الواحد. فالطلب الذي اعتبره القانون واحدا رغم توجيهه إلى متعددين؛ اعتبر بحكم القانون مما لا يقبل التجزئة.(2)

ويشترط لإعمال المادة 200 المذكورة والخروج على قاعدة النسبية توافر الشروط الثلاثة الآتية:

1- أن يكون هناك على الأقل طعن صحيح مرفوع من أحد المحكوم عليهم، حتى يستطيع باقي المحكوم عليهم الآخرون الاستفادة من رفع الطعن بعد الميعاد، أو بعد قبول الحكم.

وإذا تنازل مقدم الطعن الصحيح عن استئنافه، أو حكم باعتبار خصومة الاستئناف كأن لم تكن، انقضى مبرر قبول الطعون الأخرى المرفوعة بعد الميعاد، لأن هذه الطعون تستمد بقاءها واستمرارها من صحة الطعن الأول واستمراره.

أما إذا تعدد المحكوم لهم، ورفع الطعن على أحدهم صحيحا وفي الميعاد، فإن الطاعن يلتزم باختصام المحكوم لهم الآخرين من تلقاء نفسه أو بناء على طلب المحكمة، وإذا لم يفعل أو يمتثل لأمر المحكمة، فإنه يجوز للمحكمة أن تحكم بعدم قبول الطعن.

2-أن ينضم المحكوم عليه الذي ضيع على نفسه حقه في الطعن إلى الطاعن في طعنه بألا يطالب لنفسه بحقوق متميزة أو مستقلة عن حقوق رافع الطعن الصحيح أو تزيد على طلباته.

3- أن يثبت المحكوم عليه – الذي يريد الانضمام إلى الطعن الصحيح المرفوع من زميله – بأن الدعوى المحكوم فيها تندرج ضمن الحالات الواردة في المادة 200، وتقدر المحكمة المرفوع إليها الطعن مدى تطابق هذه الحالة مع المادة 200، وبصرف النظر عن حكم أول درجة.

المبحث الثاني

مدى رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في تقديره للارتباط

هل لمحكمة النقض حق الرقابة على قضاة الموضوع في تقريرهم لوجود الارتباط من عدمه، وفي تقريرهم لقابلية أو عدم قابلية الخصومة للتجزئة؟

يثور هذا السؤال لأن محكمة النقض هي محكمة قانون وليست محكمة واقع، فليس من اختصاصها التحقيق في وقائع الدعوى أو إثباتها.

هناك اتجاهان حول موضوع رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في تقديره للارتباط أو تكييفه له.

الاتجاه الأول: يطلق يد قاضي الموضوع في تقدير الارتباط أو في تكييفه له، حيث يذهب غالبية الفقه والقضاء في مصر وفرنسا إلى أن لقاضي الموضوع سلطة مطلقة في تقدير الارتباط تنحسر عنها رقابة محكمة النقض متى استند في تقديره للارتباط على أسباب سائغة وحمل على مبررات معقولة، وأن قاضي الموضوع يتمتع بذات السلطة عند تكييفه للارتباط.(1)

الاتجاه الثاني: يذهب إلى بسط رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع فيما يتعلق بسلطته في تقدير توافر الارتباط وفي تكييفه.

ونحن نرى عدم الأخذ بأي من الاتجاهين على إطلاقه، فتقدير الارتباط من خلال الوقائع يعود لقاضي الموضوع متى استند لأسباب سائغة، بينما مسألة تكييف الارتباط فهي مسألة قانون وتخضع لرقابة محكمة النقض.

فمن المعلوم أن وقائع الدعوى هي مادة الحكم وأساسه، لذلك فإنه حتى تقوم محكمة النقض بوظيفتها كمحكمة قانون، فإنها تبسط رقابتها على الوقائع من زاوية رقابتها على التسبيب وذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى: من حيث الأسباب الواقعية أو عدم مسخها أو تحريفها، لأن القصور في أسباب الحكم الواقعية لا يمكن محكمة النقض من قيامها بمراقبة مدى مطابقة الحكم للقانون.

والناحية الثانية: استخلاص القاضي للوقائع استخلاصا منطقيا سائغا، لأن عدم منطقية الأسباب يعني أن هذه الأسباب لا تؤدي منطقيا إلى الحكم الذي أصدرته المحكمة، فلا تصلح هذه الأسباب أن تكون مقدمة منطقية للحكم. فمحكمة النقض لا تقوم بمراقبة الوقائع لذاتها؛ ولكن حتى يمكنها القيام بواجباتها في مراقبة القانون، بعكس مراقبتها للقانون إذ تراقبه لذاته. فكلما كانت مراقبة الوقائع أمرا ضروريا لمراقبة القانون؛ فإن مراقبة الواقع تدخل في اختصاص محكمة النقض؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وإذا انتقلنا لمسألة الارتباط وعدم القابلية للتجزئة، نجد أن القاضي يمر بمرحلتين مختلفتين:

المرحلة الأولى: مرحلة استخلاص الارتباط أو عدم القابلية للتجزئة من وقائع الدعوى، وفي هذه المرحلة لقاضي الموضوع السلطة التقديرية في استخلاص الوقائع التي يكون منها الارتباط أو عدم القابلية للتجزئة، ويقتصر نطاق رقابة محكمة النقض على منطقية هذا الاستخلاص.

فإذا كان استخلاصا سائغا لا رقابة لمحكمة النقض. أما إذا كان هذا الاستخلاص غير سائغ؛ فإنه يتعرض للنقض بسبب عدم منطقية الأسباب الواقعية للحكم. وكذلك إذا كانت الوقائع التي ساقها غير كافية لاستخلاص عدم القابلية للتجزئة؛ إذ يتعرض الحكم للنقض لعدم كفاية الأسباب الواقعية.

وتطبيقا لذلك قضت محكمة النقض المصرية أنه ” لما كان الذي أورده الحكم يقوم على استخلاص سائغ لقيام الارتباط يكفي لحمله، وكان تقدير المحكمة لقيام الارتباط هو تقدير موضوعي، فإن المجادلة في هذا الصدد تكون مجادلة موضوعية تنحسر عن رقابة محكمة النقض”.

كما قضت بأنه ” إذا كان الحكم الاستئنافي إذ قضى بقبول الاستئناف وإلغاء الحكم الابتدائي وصحة ونفاذ البيع استنادا إلى أن موضوع الدعوى غير قابل للتجزئة، لم يبين كيف توافر لديه الدليل على هذا؛ فإنه يكون قد شابه قصور مبطل له في قضائه، لأنه متى كان المبيع قطعة أرض فإنه لا يصح إطلاق القول بأن الموضوع غير قابل للتجزئة دون بيان سند لهذا القول”.

وقضت محكمة النقض الفرنسية بنقض حكم محكمة الاستئناف الذي قضى بأن عدم قبول الاستئناف بالنسبة لأحد الخصوم يؤدي إلى عدم قبوله بالنسبة لجميع الأطراف لكون الموضوع غير قابل للتجزئة دون أن يبين كيف كانت الخصومة غير قابلة للتجزئة.

المرحلة الثانية: تكييف الوقائع ليقرر أنه مرتبطة أو أنه بصدد موضوع غير قابل للتجزئة، وفي هذه المرحلة يخضع لرقابة محكمة النقض؛ لأن التكييف مسألة قانون وتراقب محكمة النقض تطبيقه للقانون في تكييفه الوقائع وعدم مخالفته للقانون أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله.

(1)(1) بينما أجازت المادة 327/2 من قانون المرافعات الفرنسي تدخل الغير الاختياري بصفة تبعية؛ ولو لم يكن طرفا أصليا ولم يسبق له التدخل في خصومة الاستئناف تدخلا منضما لتأييد ومؤازرة الطاعن الأصلي في طلباته، إذا كانت هناك ظروف ومصالح استثنائية تبرر تدخله ، وكانت له مصلحة تبرر هذا التدخل لحماية تلك المصلحة ، ويخضع تقدير ذلك لمحكمة النقض

(2)(2) نقض مدني 43/2006 تاريخ 10/10/2007 ج 3 ص 100.

(1)(1) نقض مدني 73/2008 تاريخ 16/10/2008 ج 4 ص 148.

(2)(2) نقض مدني 5/2008 تاريخ 27/2/2008 ج 4 ص 90.

(1)(1) فتحي والي ، الوسيط في شرح قانون المرافعات، بند 179 صفحة 264 ، ونقض مدني 25/12/1988 ، الطعن رقم 1309 السنة القضائية 56 . مجموعة أحكام النقض السنة 26 الجزء الثاني صفحة 1640 ، والسنة 17 الجزء الثالث صفحة 1261.