محاضرات في ارتباط الدعاوى وأثره على وحدة الخصومة المدنية

الباب الأول

الارتباط

يشمل هذا الباب تعريف الارتباط ، وصور الطلبات المرتبطة، ووسائل جمعها في خصومة واحدة، وأثر الارتباط على قواعد الاختصاص، في فصول أربعة.

الفصل الأول

تعريف الارتباط

تعريف الارتباط يقتضي بيان العناصر اللازمة لوجوده، والوقوف على معياره، وبيان خصائصه في ثلاثة مطالب.

المطلب الأول

عناصر الارتباط

عناصر الدعوى ثلاثة: الأطراف؛ والمحل ( أو الموضوع)؛ والسبب. وإذا اتحدت دعويان في هذه العناصر الثلاثة فهذا يعني أننا أمام دعوى واحدة؛ وليس أمام دعويين مرتبطتين. فالارتباط يفترض دعويين مختلفتين على الأقل في أحد العناصر.

لذلك يلزم تناول كل عنصر من هذه العناصر؛ لبيان أثر اتحاد أو اختلاف دعويين في ذلك العنصر على وجود الارتباط أو عدمه.

  1. وحدة الخصوم.

يقصد بوحدة الخصوم، أن يكون الخصوم في الدعوى الأولى هم أنفسهم في الدعوى الثانية. ويذهب القضاء والفقه إلى أن وحدة الخصوم في الدعويين ليست من العناصر اللازمة لوجود الارتباط، فيمكن أن يوجد ارتباط بالرغم من انتفاء تلك الوحدة، مثال ذلك الدعوى التي يقيمها الدائن ضد المدين والضامن.

كما قد ينتفي الارتباط بالرغم من وحدة الخصوم في الدعويين، مثال ذلك أن يقيم المؤجر دعوى لإخلاء المأجور ضد المستأجر ، ويقيم المؤجر أيضا دعوى للمطالبة بالتعويض ضد المستأجر نتيجة إصابة المستأجر له في حادث.

  1. وحدة المحل ( الموضوع).

يقصد بوحدة المحل؛ أن يكون ما يطلبه الخصوم في إحدى الدعويين؛ هو ذاته الشيء المطلوب في الدعوى الأخرى.

وتعد وحدة المحل في الدعويين أمرا كافيا لقيام الارتباط بينهما، ولكنها ليست ضرورية. فقد يقوم الارتباط بين دعويين بالرغم من عدم اتحاد المحل فيهما. مثال ذلك: دعوى تنفيذ عقد؛ ودعوى فسخه أو بطلانه، وكذلك دعوى الاستحقاق التي يقيمها (أ) ضد (ب) ؛ ودعوى الضمان التي يقيمها المدعى عليه (ب) ضد البائع له (ج) لإلزامه بضمان الاستحقاق.

غير انه لا ينفي وحدة المحل في الدعويين؛ أن يكون المطلوب في الدعوى هو نفي المطلوب في دعوى أخرى، كدعوى صحة عقد؛ ودعوى بطلانه، فلا شك أن الدعويين مرتبطتان لوحدة المحل فيهما.

ج) وحدة السبب

يقصد بوحدة السبب في الدعويين، أن تكون الوقائع القانونية المنتجة التي يتمسك بها المدعي في إحدى الدعويين؛ هي ذاتها المتمسك بها في الدعوى الأخرى.

واتحاد الدعويين في السبب كاف بذاته لقيام الارتباط بينهما، فإذا باع شخص شيئا إلى شخصين؛ فإن دعواه بالثمن ضد أحدهما تعد مرتبطة بدعواه بالثمن ضد الآخر، لوحدة السبب في الدعويين وهو عقد البيع.

ولكن وحدة السبب ليست لازمة، فقد يوجد الارتباط بالرغم من عدم اتحاد السبب، كالدعوى التي يقيمها المؤجر ضد المستأجر بالإخلاء؛ ودعواه ضده بالتعويض عن المدة التي انتفع فيها بالعين بعد انتهاء عقد الإيجار. فوحدة السبب في الدعويين ليست من العناصر اللازمة لقيام الارتباط بينهما. (1)

المطلب الثاني

معيار الارتباط

يختلف الفقه والقضاء حول معيار الارتباط، ويمكن حصر هذا الاختلاف في اتجاهين أساسيين:

الاتجاه الأول: هو الاتجاه الموضوعي، الذي يبحث عن معيار الارتباط بين دعويين بتحليل هاتين الدعويين للوقوف على العناصر المشتركة بينهما للقول بوجود ارتباط أو انتفائه.

والاتجاه الثاني هو الاتجاه الغائي، الذي يبحث عن معيار الارتباط بالنظر إلى غايته والفائدة التي تجنى من جمع الدعاوى المرتبطة أمام محكمة واحدة.

الاتجاه الأول: المعيار الموضوعي.

يحدد هذا الاتجاه معيار الارتباط من خلال تحليل الدعاوى للوقوف على العناصر المشتركة بينها ( المحل والسبب) ، غير أن أنصار هذا الاتجاه اختلفوا :

فذهب بعضهم إلى أن الارتباط يقتضي أن تشترك الدعويان في عنصر السبب؛ أو عنصر الموضوع.

واكتفى بعضهم بأن يكون هناك اشتراكا جزئيا وليس اتحادا في عنصر السبب؛ أو الموضوع لتوافر الارتباط.

وذهب آخرون إلى أن الارتباط يتوافر عندما تكون المنازعة واحدة؛ إذا كانت طبيعة الخلاف واحدة؛ وإن اختلفت الدعويان في المحل والسبب. مثال ذلك دعوى البطلان ودعوى الفسخ، فهما تختلفان في المحل والسبب؛ ولكن طبيعة الخلاف لم تتغير، حيث إن المقصود دائما هو إنهاء عدم التوازن الاقتصادي بالفسخ أو البطلان.

بينما ذهب غيرهم إلى أن الفروض التي يقدمها الارتباط تختلف، فهو يتغير من الحد الأقصى مقتربا من فكرة قيام ذات النزاع؛ والحد الأدنى الذي لا يتطلب إلا شرطين ضروريين وكافيين:

الأول: أن يكون هناك طرف مشترك في الدعويين.

والثاني: أن تكون المسألة القانونية المثارة واحدة؛ وواردة في ذات الموضوع المادي.

ولكن يلاحظ على هذا الاتجاه التحليلي، أنه قاصر عن شمول بعض صور الدعاوى التي يجمع الفقه والقضاء على توافر صلة الارتباط بينها؛ بالرغم من اختلاف السبب؛ وتنوع المحل في كل دعوى، فهو ليس جامعا لكل الصور التي تندرج تحت محل التعريف.

مثال ذلك الارتباط القائم بين دعوى البائع على المشتري بتنفيذ العقد ودفع الثمن؛ ودعوى المشتري بفسخ العقد أو بطلانه. والارتباط المتوافر بين دعوى الحيازة ودعوى التعويض عن الاعتداء على الحيازة أو التعرض لها، وكذلك دعوى المشتري على البائع بتسليمه الشيء المباع؛ ودعوى السمسار على المشتري والبائع بأتعابه عن إبرام العقد.

ومع ذلك فإنه يمكن الاسترشاد بهذا المعيار للكشف عن وجود ارتباط بين دعويين مختلفتين؛ إذا اشتركا في أي عنصر موضوعي، فاشتراك دعويين أو أكثر في المحل؛ أو السبب، يكشف عن وجود ارتباط بينهما.

الاتجاه الثاني: المعيار الغائي أو النفعي.

يبحث هذا المعيار عن الارتباط بين الدعاوى؛ بالنظر إلى غايته والفائدة التي تجنى من جمع دعويين معا لتحقيقهما والحكم فيهما معا من محكمة واحدة.

وتقرير الارتباط من عدم وجوده متروك للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع ؛ طبقا لما يراه من ظروف كل دعوى على حده.

وقد اتجه الفقه والقضاء في فرنسا ومصر إلى هذا المعيار؛ ولكن عبروا عن تبنيهم له بعبارات مختلفة، وذلك لاختلافهم حول الهدف المقصود من الارتباط والفائدة المرجوة منه.

فعرفه بعضهم بأنه صلة وثيقة بين دعويين تجعل من المناسب ومن حسن سير العدالة جمعهما أمام محكمة واحدة لتحقيقهما والحكم فيهما معا. (2)

وعرفه بعضهم بأنه صلة توجد بين طلبين أو دعويين إذا كان الحكم في إحداهما يؤثر في الأخرى؛ مما يجعل من حسن إدارة القضاء تحقيقهما والحكم فيهما معا. (3)

وعرفه آخر بأنه صلة وثيقة بين طلبين تجعل من المصلحة أن تنظرهما وتفصل فيهما محكمة واحدة؛ تفاديا لصدور أحكام قد يصعب أو يستحيل التوفيق بينهما؛ إذا نظرت الطلبين وفصلت فيهما محكمتان مختلفتان. (4)

أما التعريف الذي نؤيده فهو الذي يذهب إلى أن الارتباط هو صلة بين دعويين أو أكثر؛ تؤدي إلى جعل الحكم الصادر في إحداها مؤثرا على الحكم الصادر في الأخرى، مما يقتضي جمعهما أمام محكمة واحدة لتحقيقهما والفصل فيهما معا بحكم واحد، وذلك نزولا على مقتضيات حسن إدارة القضاء؛ وتلافيا لصدور أحكام متناقضة ؛ أو يصعب التوفيق بينها.

وهذا التعريف:

  1. يكتفي لوجود الارتباط بين دعويين؛ وجود صلة بينهما؛ دون تحديد أو توصيف تلك الصلة، التي يمكن الكشف عنها من خلال الاشتراك في العناصر الموضوعية أو الشخصية أو غيرها.
  2. يعول لوجود الارتباط على الآثار المترتبة على تلك الصلة وليس على الصلة ذاتها.
  3. لا يشترط أن تؤدي تلك الصلة إلى جعل تنفيذ الحكمين مستحيلا؛ وذلك في حالة صدور حكمين متميزين من محكمتين مختلفتين، ويكفي أن تكون هناك صعوبات تعوق تنفيذهما معا، لأن استحالة التنفيذ ليست من خصائص الارتباط ولا من شروطه.

(1)(1) مجرد تشابه الوقائع في الدعويين لا يكفي لوحدة السبب بينهما، لذلك لا يجوز الاعتماد على مجرد تشابه الوقائع للقول بقيام الارتباط بين الدعويين بزعم وحدة السبب فيهما.

كما لا يكفي لوحدة السبب وقيام الارتباط بين دعويين؛ مجرد وحدة المحرر المثبت فيه سبب كل من الدعويين، طالما أن كل سبب متميز عن الآخر ولا صلة له به.

(2)(2) تبنى المشرع الفرنسي هذا المعيار في المادة 101 من قانون المرافعات الجديد.

(3)(3) فتحي والي، الوسيط، بند 179 صفحة 263.

(4)(4) رمزي سيف، الوجيز في قانون المرافعات المدنية والتجارية، بند 303، صفحة 338.