محاضرات في ارتباط الدعاوى وأثره على وحدة الخصومة المدنية

الفرع الخامس
الطلبات المقابلة في قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية

حددت المادة (98) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الجديد الطلبات المقابلة التي يجوز للمدعى عليه تقديمها ، فبينت ثلاثة أنواع من الطلبات المقابلة ، ثم أوردت قاعدة عامة .

أولا : القاعدة العامة

نصت الفقرة الثالثة من المادة (98) على أنه ” يجوز للمدعى عليه أن يقدم من الطلبات العارضة ما تأذن المحكمة بتقديمه مما يكون مرتبطا بالطلبات الواردة في لائحة الدعوى “.

وبذلك يكون المشرع قد تبنى قاعدة عامة بالنسبة لكافة الطلبات العارضة هي قاعدة الارتباط، وذلك لأن الارتباط هو المبرر للجمع بين الطلبات في خصومة واحدة. والأخذ بهذه القاعدة يجعل الطلبات الأخرى المنصوص عليها في الفقرات السابقة واردة على سبيل المثال لا الحصر ، فيجوز للمحكمة قبول أي طلب من المدعى عليه، ولو لم يكن من الطلبات الخاصة طالما أنه مرتبط بالطلب الأصلي .

ويخضع مدى توافر الارتباط لتقدير قاضي الموضوع ، كما يجب أن تأذن المحكمة بتقديم الطلب، وقد ترك لها المشرع قبول أو رفض هذه الطلبات وفق ما تراه مناسبا ، حتى لا يستخدم المدعى عليه هذه الطلبات كوسيلة لتأخير الفصل في الدعوى .

ومثال الطلبات المرتبطة ، أن يطلب موكل من الوكيل تقديم حساب بمناسبة الوكالة ، فيتقدم الوكيل بطلب الأتعاب والمصاريف .

ثانيا : الطلبات المقابلة الخاصة

أوردت المادة (98) فقرتين لبيان الطلبات المقابلة الخاصة التي يجوز للمدعى عليه تقديمها قبل أن تورد القاعدة العامة ، وهي تتضمن ثلاث حالات واردة على سبيل المثال لا الحصر ولا يخضع قبولها لسلطة المحكمة التقديرية ، وهذه الحالات هي :

1- طلب المقاصة القضائية

المقاصة القضائية من أهم تطبيقات الطلبات المقابلة، لذلك نص عليها قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية صراحة في معرض بيان حق المدعى عليه في تقديم الادعاء المقابل.

ومن المعلوم أن المقاصة قد تكون قانونية إذا كان موضوع كل من الدينين نقودا أو مثليات متحدة في النوع والجودة ، وكان كل منهما خاليا من النزاع مستحق الأداء صالحا للمطالبة به قضاء ، حيث يترتب على المقاصة انقضاء الدينين ، وهي تتم بقوة القانون وبغير حاجة إلى طلبها ، بل يكفي إبداء الدفع بحصولها وهو دفع يشكل ادعاء موضوعيا .

أما إذا تخلف شرط من شروط المقاصة القانونية ، كما لو كان دين المدعى عليه متنازعا في وجوده أو مقداره ، كدين التعويض الناشئ عن عمل ضار ، فإن على المدعى عليه أن يطالب بدينه ، فإذا قضت به المحكمة أمكنه التمسك بالمقاصة بين دينه ودين المدعي ، فالمقاصة القضائية تقع بحكم من القضاء بناء على طلب أحد الخصمين بعد تقدير حقوق كل منهما .

وحيث إن قيام المدعى عليه بإقامة دعوى أصلية للمطالبة بدينه قد يعود عليه بالضرر إذا ما نفذ الحكم الصادر بدين المدعي ، ثم أعسر المدعي قبل حصول المدعى عليه على حكم في دعواه ، فقد أجاز المشرع للمدعى عليه تقديم طلب المقاصة القضائية بصورة عارضة (دعوى مقابلة)، ولو لم يكن هناك ارتباط من حيث الموضوع أو السبب بين دين المدعي ودين المدعى عليه ، وذلك حتى يتفادى الحكم عليه بطلبات المدعي كلها أو بعضها في الوقت الذي يكون هذا المدعي مدينا له ، وبذلك يتفادى المدعى عليه خطر إعسار المدعي .

ويعد طلب المقاصة القضائية طلبا عارضا لأن المدعى عليه يطلب فيه الحكم بحقه قبل المدعي ، ثم إجراء المقاصة ، وهذا ما يميزه عن الدفع بالمقاصة القانونية التي تؤدي إلى انقضاء الدين بقوة القانون متى توافرت شروطها .

وتختلف المقاصة القضائية عن المقاصة القانونية في وجوه كثيرة منها:

  1. ما يتعلق بالشروط، فقد تشدد المشرع في المقاصة القانونية؛ فتطلب لوقوعها أن يكون هناك تماثل وتقابل ما بين الدينين، وأن يكون كل منهما خاليا من النزاع؛ مستحق الأداء؛ صالحا للمطالبة به قضاء.

أما المقاصة القضائية؛ فإنها تقع مع عدم خلو الدين من النزاع؛ وعدم معلومية المقدار، ويهدف المدعى عليه من ورائها إلى تحسين مركزه القانوني؛ بالفصل في الدين الذي يدعيه أولا؛ ثم الحكم بالمقاصة بعد ذلك.

  1. ما يتعلق بوسيلة التمسك بالمقاصة، هناك اختلاف إجرائي كبير بين نوعي المقاصة، فالتمسك بالمقاصة القانونية يكون في صورة دفع موضوعي يبديه المدعى عليه؛ دون أن يلتزم في دفعه بشكل خاص أو ترتيب معين. وإنما يجوز له إبداءه في أية حالة تكون عليها الخصومة؛ طبقا للنظام الإجرائي الخاص بالدفوع الموضوعية.

أما التمسك بالمقاصة القضائية؛ فإنه يكون في صورة طلب مقابل يبديه المدعى عليه أمام محكمة الطلب الأصلي، لذلك يرى البعض أن الطلب المقابل يعد المصدر الفعلي للمقاصة القضائية.

وهناك اختلافات أخرى بين المقاصتين، سنبينها عند تناول المقاصة القضائية في النقاط الآتية.

شروط قبول المقاصة القضائية

حتى تؤدي المقاصة القضائية غرضها بانقضاء الدينين بقدر الأقل منهما ، لا بد من توافر شروط معينة فيها؛ بعضها شروط إيجابية وبعضها سلبية .

أالشـروط الإيجابيـة :

لا يشترط في المقاصة القضائية توفر جميع شروط المقاصة القانونية لأن القاضي يتمتع بسلطة تقديرية كبيرة تمكنه من استكمال بعض الشروط الناقصة في المقاصة القضائية ، نظرا لدوره التكميلي للمشرع .

والشرط المتفق عليه فقها وقضاء بالنسبة لنوعي المقاصة هو أن يكون كل من الدينين صالحا للمطالبة به قضاء .

أما بالنسبة لشرطي الخلو من النزاع ومعلومية المقدار فإنهما غير مطلوبين في المقاصة القضائية، بل تقبل المقاصة إذا كان الدين محل نزاع أو غير معين المقدار لأن القاضي يقوم بالفصل في النزاع المثار حول الدين وتحديد مقداره .

مثال : أن يطلب دائن مدينه بدينه ، فيدعي المدين بالحق في التعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء خطأ الدائن ، مطالبا بإجراء المقاصة بين ما عليه من دين وما له من حق . فإن على القاضي أن يقوم أولا بالفصل في دعوى المسؤولية وتحديد مقدار التعويض ثم يوقع المقاصة بعد ذلك.

ويمكن أن يفتح الطلب المقابل بالمقاصة القضائية ، الباب للتحايل والمماطلة من جانب المدعى عليه إذا لم يكن له أساس من الصحة ، ولكن خضوع الطلب المقابل لرقابة القاضي وتقديره كفيل بأن يحد من إساءة استعمال المقاصة القضائية في غير غرضها ، فيمكنه أن يرفض الطلب إذا تبين له أن هناك صعوبة في التحقق من الدين؛ وأن الفصل في الطلب المقابل سيترتب عليه تأخير الفصل في الدعوى الأصلية .

ب) الشـروط السلبيـة :

يقصد بالشروط السلبية للمقاصة ، تلك الصفات الموجودة في أحد الدينين وتحول دون وقوعها ، كما لو كان أحد الدينين لا يجوز الحجز عليه ؛أو ناتجا عن عمل غير مشروع . فالشروط السلبية يجب عدم تحققها لوقوع المقاصة القضائية .

وقد نصت على هذه الشروط المادة 364 من القانون المدني المصري بقولها ” تقع المقاصة في الديون أيا كان مصدرها وذلك فيما عدا الأحوال الآتية :

  1. إذا كان أحد الدينين شيئا نزع دون حق من يد مالكه وكان مطلوبا رده .
  2. إذا كان أحد الدينين شيئا مودعا أو معارا عارية استعمال وكان مطلوبا رده .
  3. إذا كان أحد الدينين حقا غير قابل للحجز “. (1)

وعلى الرغم من أن هذا النص ورد بخصوص المقاصة القانونية ، إلا أنه تضمن شروطا عامة يجب توافرها في نوعي المقاصة وتوجبها المبادئ العامة في القانون ويقتضيها المنطق القانوني السليم، ذلك أنه يتنافى مع العقل والمنطق السماح للمدعى عليه بطلب إجراء المقاصة القضائية بدين له في ذمة المدعي سلك طريقا غير مشروع في الحصول عليه .

مدى تطلب الارتباط بين طلب المقاصة والطلب الأصلي:

لا يأخذ التشريع المقارن في مجمله – بما فيه المشرعان الفرنسي والمصري وكذلك المشرع الفلسطيني – بالارتباط كشرط لقبول المقاصة القضائية؛ فعدم لزوم الارتباط من خصائص المقاصة القضائية، بالإضافة إلى أنها ليست وسيلة دفاع؛ وإنما تشكل طلبا قضائيا حقيقيا له عناصره الأساسية المميزة له عن الطلب الأصلي.

ولكن يمكن أن يوجد ارتباط في مجال العقود الملزمة للجانبين؛ وخصوصا بالنسبة للالتزامات الناشئة عن تنفيذ ذات العقد، حيث يظهر الارتباط مثلا بين الطلب الأصلي المقدم من المقاول بالمطالبة بأجرته وثمن الأدوات التي استخدمها؛ والطلب المقابل بالمقاصة المقدم من المدعى عليه بالتعويضات الناشئة عن التنفيذ المعيب؛ أو التأخير في التنفيذ. ويشكل الارتباط في هذه الحالة قيدا على سلطة المحكمة في قبول الطلب المقابل؛ إذ أنه عند انتفاء تلك الصلة تكون سلطة المحكمة في قبول الطلب أو رفضه واسعة دون معقب عليها تبعا لما تتبيّنه بمطلق سلطتها من أوراق الدعوى.

أما عند عدم وجود ارتباط بين المقاصة القضائية والطلب الأصلي؛ فإنه يجب على المحكمة قبول المقاصة القضائية؛ أو على الأقل أن تبين لرفضها سببا، نظرا لما يمثله الارتباط من قيد على سلطة المحكمة في قبول أو رفض المقاصة القضائية.

دور القاضي في الحكم بالمقاصة القضائية وطبيعة الحكم الصادر فيها

يملك القاضي تجاه المقاصة القضائية سلطة كبيرة سواء من حيث مبدأ قبولها أو التحقق من شروطها وسلطة الفصل فيها .

فللقاضي مطلق الحرية في قبول أو رفض ذلك الطلب ، فقد يرى من الملائم قبول الطلب المقابل والفصل فيه إذا تبين له أن من السهل جعل الدين خاليا من النزاع ويمكن تحديد مقداره كما قد يرفض الطلب :

  1. إذا تبين له أن القصد من تقديمه الكيد والمماطلة بغية تعطيل الفصل في الدعوى الأصلية .
  2. إذا ظهر له أن الطلب المقابل ليس له أساس واضح .
  3. إذا تبين له أن الطلب المقابل غير ظاهر الجدية .

ويميل الاتجاه السائد إلى أن الحكم الصادر بالمقاصة القضائية يعد حكما منشئا وليس حكما تقريريا أو كاشفا (1) لأن المقاصة القضائية لا يمكن أن تقع دون تدخل القاضي لتكملة الشرط الناقص بجعل الدين خاليا من النزاع معلوم المقدار . وعندما يخلي القاضي الدين من النزاع ويحدد مقداره فإنه يكون قد أنشأ مركزا قانونيا جديدا لم يكن موجودا من قبل ، بعكس المقاصة القانونية التي يقتصر دور القاضي فيها على التحقق من توافر شروطها والحكم بها (2).

تحديد تاريخ المقاصة القضائية

ما دام الحكم الصادر بالمقاصة القضائية يعد حكما منشئا ، فإن تحديد تاريخ المقاصة القضائية يكون هو تاريخ الحكم الصادر بها لأنها لم تكن موجودة قبل ذلك الحكم حتى لو استوفت شروطها(3).

  1. طلب الحكم للمدعى عليه بالتعويضات عن الضرر الذي لحقه من جراء إجراءات التقاضي .

وذلك لأن محكمة الدعوى الأصلية أقدر على تقدير الضرر الذي وقع للمدعى عليه نتيجة إجراء اتخذ أمامها . فإذا كان المدعي في الدعوى الأصلية قد طلب الحجز الاحتياطي أو منع المدعى عليه من السفر ، وكان هذا الطلب في غير محله ؛ إما لأن الدين المطلوب الحجز بشأنه أو المنع من السفر لأجله غير مستحق الأداء ، أو لأن الدائن مؤمن على دينه ، فإن للمدعى عليه أن يتقدم بطلب عارض للحكم على المدعي بالتعويض عن الضرر الذي لحقه بسبب تعسف المدعي في مخاصمته أو طريقة سلوكه في الدعوى .

  1. أي طلب يكون متصلا بلائحة الدعوى اتصالا لا يقبل التجزئة .

ويقصد بهذه الحالة اتصال الطلب العارض بالطلب الأصلي ، كما هو الحال بالنسبة لطلبات المدعي العارضة السابق ذكرها . ومثال ذلك أن يطلب المدعي تقرير ملكيته لعقار ، فيطلب المدعى عليه تقرير ملكيته هو للعقار . أو أن يطلب المدعي تعويض الضرر الذي أصابه من جراء حادث معين، فيطالب المدعى عليه بالتعويض بمناسبة الحادث ذاته . أو أن يطلب المدعي منع التعرض فيقدم المدعى عليه طلبا يدعي بموجبه الحيازة ومنع تعرض المدعي له فيها .

ويقصد من قبول هذه الطلبات بصورة عارضة تفادي تناقض الأحكام في المنازعات المرتبطة بعضها ببعض .

  1. (1)نص مشروع القانون المدني الفلسطيني على ذلك في المادة 399 منه بقولها: لا تقع المقاصة القانونية في الحالات الآتية:
  1. إذا كان أحد الدينين شيئا نزع دون حق من يد مالكه وكان مطلوبا رده.
  2. إذا كان أحد الدينين شيئا مودعا أو معارا عارية استعمال.
  3. إذا كان حق أحد الدائنين غير قابل للحجز.
  4. إذا كان أحد الدينين تعويضا عن ضرر جسدي.

(1)(1) الحكم التقريري أو الكاشف هو الحكم الذي يقتصر على مجرد الكشف عن وجود أو عدم وجود المركز القانوني المدعى به دون أن يلزم المدعى عليه بأداء معين ، كالحكم الصادر ببراءة الذمة أو الاعتراف بالجنسية .

والحكم المنشئ هو الحكم الذي ينشئ مراكز قانونية موضوعية جديدة لم تكن موجودة من قبل كالحكم الصادر بفسخ العقد أو إفلاس أحد التجار . وهناك طائفة ثالثة من الأحكام هي أحكام الإلزام التي تقضي بإلزام المحكوم عليه بأداء معين قابل للتنفيذ الجبري .

(2)(2) يذهب رأي في الفقه إلى تشابه نوعي المقاصة القضائية والقانونية سواء من حيث الغاية – فكل منهما تعد أداة ضمان – أو من حيث أن حقيقة كل منهما واحدة ، وأن المقاصة القضائية لا تخرج عن كونها مقاصة قانونية، تقع عندما يتوافر في حكم القاضي شرط الخلو من النزاع الذي كان ينقصها، لذلك فإن الحكم الصادر بالمقاصة القضائية يعد حكما تقريريا أو كاشفا .

(3)(3) الرأي الذي يعتبر الحكم بالمقاصة القضائية كاشفا يرجع تاريخ المقاصة إلى تاريخ المطالبة بها .