الفصل الرابع – الاختصاص النوعي

      يقصد بالاختصاص النوعي توزيع العمل بين المحاكم المختلفة في داخل الجهة القضائية الواحدة طبقا لطبيعة المنازعة أو أهميتها . فيبين نصيب الطبقة الواحدة – من طبقات جهة قضائية معينة – من المنازعات التي يجوز لها الفصل فيها . كاختصاص طبقة محاكم الصلح أو البداية ، أو محاكم الاستئناف ، أو اختصاص محكمة النقض .

      ويرجع تعدد طبقات المحاكم إلى اعتبارات عدة أهمها :

  1. توافر محكمة عليا تشرف على صحة تطبيق القانون ، وتعمل على توحيد القضاء في المسائل القانونية .
  2. تخصيص محاكم للفصل في القضايا الكبيرة الأهمية – وكثيرا ما تكون هذه القضايا معقدة، ومحاكم أخرى للفصل في القضايا القليلة الأهمية – وهذه القضايا لا تحتاج في الغالب إلى العناء في الكشف عن الحقيقة .
  3. تخصيص محاكم للفصل في الدعاوى بصفة ابتدائية، ومحاكم لنظر الدعاوى بصفة استئنافية، لأن القانون الفلسطيني يأخذ بمبدأ التقاضي على درجتين .

      ولما كان الاختصاص النوعي يتعلق في مجمله بالمحاكم العادية فيما يتعلق بتوزيع العمل بين محاكم الصلح ومحاكم البداية في المنازعات المدنية والتجارية والجزائية، فإننا نعرض لهذا الموضوع في مبحثين على التوالي .

المبحث الأول

الاختصاص النوعي لمحكمة الصلح

      تختص محاكم الصلح ببعض الدعاوى اختصاصا نوعيا، إما لشيوع هذا النوع من الدعاوى في العمل مما يستلزم جعلها من اختصاص محكمة قريبة من المتقاضين تيسيرا لهم، أو لأن بعضها قليل الأهمية بسيطا لا يثير مسائل قانونية هامة ولا يحتاج إلى خبرة قانونية عميقة لأنها تتمخض عن مجموعة من الإجراءات ويقتصر دور القاضي فيها على المراقبة وتحريك تلك الإجراءات مما يستطيع قاضي الصلح القيام به دون عناء، لذلك وإن كان غير قابل للتقدير فإن تركه لقواعد الاختصاص القيمي كان سيجعله من اختصاص محكمة البداية بغير داع .

          والقاعدة أن محكمة الصلح ذات اختصاص محدد، فهي لا تختص إلا بالدعاوى التي يخولها القانون الفصل فيها بنص صريح، لذلك فإنه لمعرفة المحكمة المختصة نوعيا بنظر دعوى معينة يجب البحث عما إذا كان هناك نص في القانون يخول الاختصاص لمحكمة الصلح، فإن لم يوجد كان الاختصاص لمحكمة البداية بغير حاجة إلى نص خاص باعتبارها صاحبة الولاية العامة فيما لم يرد به نص خاص.

      وقد حددت الفقرة الثانية من المادة (39) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية معدلة بالقانون رقم 5 لسنة 2005 اختصاص محكمة الصلح نوعيا في الدعاوى الآتية مهما بلغت قيمتها :

  • تقسيم الأموال المشتركة المنقولة وغير المنقولة : أي سواء كان المال عقارا أو منقولا ومهما كانت قيمته، فهي تختص بتحديد حصص الشركاء في المال الشائع بتقويمه وقسمته حصصا إن كان قابلا للقسمة ، أو ببيعه بالمزايدة في حال عدم إمكان قسمته عينا أو كان من شأن قسمته إحداث نقص كبير في قيمته. ويشترط لاختصاص محكمة الصلح في دعوى القسمة أن لا يثور أثناء نظر الدعوى نزاع على الملكية أو طبيعة الشيوع أو مقدار أو نصيب أي من الشركاء، وفي هذه الحالة يخضع هذا النزاع للقواعد المقررة لتقدير القيمة وتحديد الاختصاص، ويكون الفصل فيه للمحكمة المختصة وفقا للقواعد العامة . فإن كان من اختصاص محكمة الصلح تولت الفصل فيه، وإن كان يخرج عن اختصاصها القيمي فعليها أن تحيل الخصوم إلى محكمة البداية المختصة وأن تحدد لهم موعد جلسة يحضرون فيها، وتوقف دعوى القسمة إلى أن يفصل نهائيا في هذا النزاع.
  • إخلاء المأجور، فمحكمة الصلح تختص بالنظر في جميع دعاوى إخلاء المأجور بالاستناد للاختصاص النوعي مهما كانت قيمة الأجرة السنوية للعقار.
  • حقوق الارتفاق ويقصد بها حق الشرب وحق المجرى وحق المرور وحق المسيل الذي منع أصحابه من استعماله، سواء كانت هذه الدعاوى تتعلق بملكية حق الارتفاق أو حيازته أو التعويض عن الاعتداء عليه، وسواء كانت حقوق الارتفاق هذه قانونية أم ناشئة عن عقد.
  • المنازعات المتعلقة بوضع اليد ، وتسمى دعاوى الحيازة ، وهي ثلاثة : الأولى دعوى إعادة اليد أو استرداد الحيازة، ويرفعها واضع اليد( الحائز) الذي سلبت منه الحيازة . والثانية دعوى منع التعرض، ويرفعها حائز العقار أو الحق العيني موضوع الحيازة الذي اقتصر الاعتداء على تكدير حيازته ومنازعته فيها لمنع الغير من الاعتداء على هذه الحيازة. والثالثة دعوى وقف الأعمال الجديدة ويرفعها الحائز الذي تمثل الاعتداء على حيازته في البدء بأعمال لم تتم بحيث إذا ترك حتى تتم أصبح تعرضا.

 وتهدف هذه الدعاوى إلى حماية حيازة واضع اليد على العقار لذاتها بغض النظر عن كون الحائز صاحب حق أم لا باعتبارها تمثل الأمر الواقع، فهي دعوى يرفعها الحائز لحماية حيازته بصرف النظر عن ثبوت حقه في الملكية، لذلك قد يتصور رفعها على المالك الحقيقي، وقد يتصور الحكم في دعوى الحيازة لمصلحة الحائز ولو كان خصمه هو المالك، لأن نفي ملكية مدعي الحيازة لا ينفي حقه في حماية حيازته. فهي لا تحمي حقا، وإنما تحمي مركزا قانونيا هو الحيازة أو وضع اليد، لأن الأصل في حيازة واضع اليد أنها سليمة لذلك إذا وقع اعتداء عليها يمكن للحائز رد هذا الاعتداء عن طريق رفع إحدى دعاوى الحيازة، وليس على المدعي سوى أن يثبت حيازته للعقار محل الدعوى دون أن يطلب منه إثبات ملكيته، كما لا يجوز للمدعى عليه الذي اعتدى على حيازة المدعي أن يدفع الدعوى بأنه مالك للعقار الذي اغتصبه أو أنه صاحب حق عيني عليه، لأنه لا يجوز استيفاء الحق بالذات، فملكية الشخص للعقار لا تبرر عدوانه على الحيازة بل يلزم للدفاع عن حقه أن يرفع دعوى للمطالبة به.

 ويمكن رفع الدعوى من الحائز القانوني أي الذي تكون حيازته بنية التملك، أو الحائز العرضي صاحب الحق الشخصي في الانتفاع بحقه كالمستأجر والمرتهن وصاحب حق الارتفاق وصاحب حق الانتفاع. فالعبرة بمن توافرت له الحيازة المادية دون الاعتداد بالأعمال التي تتم على سبيل التسامح.

 وتختلف دعوى الحيازة عن دعوى الملكية في أن دعوى الحيازة ليس الغرض منها سوى حماية وضع اليد من حيث هو بغض النظر عن كنه أساسه وعن مشروعيته. بينما دعوى الملكية ترمي إلى حماية حق الملكية وما يتفرع عنه من الحقوق العينية الأخرى بطريقة مباشرة، ويتناول البحث فيها حكما الحق المدعى به ومشروعيته. والحكم الصادر في دعوى الحيازة لا يقيد المحكمة التي يعرض عليها النزاع على أصل الحق ولو كانت هي التي أصدرته، لأنه صادر في دعوى تختلف موضوعا وسببا عن هذه الأخيرة .

 ولا يجوز اللجوء لدعوى الحيازة إذا وجد عقد بين الخصمين بهدف تنفيذ العقد، بل يجب على المدعي طلب تنفيذ العقد استنادا إلى العقد نفسه، فإذا اشترى شخص عقارا بعقد غير مسجل واستلم العقار من البائع، ولكن امتنع البائع عن إتمام إجراءات تسجيل العقار باسم المشتري في دائرة الأراضي، لا يجوز للمشتري أن يرفع دعوى منع المعارضة في الملكية على البائع بل عليه أن يطلب إلزام  المدعى عليه بتنفيذ شروط العقد.(1)

  • المنازعات المتعلقة بالانتفاع في العقار . وهذا النوع من القضايا ليس معروفا في الضفة الغربية، ويبدو أنه شائع في قطاع غزة .
  • تعيين الحدود وتصحيحها، ويقصد بها تعيين الحد الفاصل بين عقارين متجاورين، أي تحديد الحدود الفاصلة بين عقار المدعي وعقار المدعى عليه، فيمكن اللجوء إلى قاضي الصلح لبيان العلامات الفاصلة بين العقارين وإلزام المتجاورين بالقرار الحاسم للنزاع على الحد المشترك طالما لا يوجد نزاع على ملكية العقار أو مساحته أو طبيعة الشيوع، أي أن النزاع يثور فقط على مكان وجود الحد الفاصل بين العقارين. وتقتصر مهمة المحكمة في هذه الدعوى على تطبيق مستندات ملكية الخصوم ووضع علامات مادية تظهر هذا الحد، ويتم ذلك من خلال خبير مساحة تنتدبه المحكمة للقيام بهذه المهمة.وإذا ثار خلال الدعوى نزاع على ملكية أحد العقارات، أو كانت العقارات مملوكة على الشيوع، توقف المحكمة دعوى تعيين الحدود وتحيل النزاع حول الملكية للمحكمة المختصة إذا كان خارجا عن اختصاصها. وإذا نزع أحد المتجاورين العلامات التي قامت المحكمة من خلال الخبير بوضعها لتحديد الحدود بين العقارات المتجاورة، فإنه يكون قد أخل بالتزامه باحترام الحكم ويتم إلزامه عن طريق السلطة العامة بإعادة العلامة إلى موقعها على نفقته، بالإضافة إلى إمكانية الرجوع عليه بالتعويض.(2)
  • استرداد العارية ، وهذا النوع من الدعاوى أيضا غير معروف في الضفة الغربية وهو شائع الاستعمال في قطاع غزة ، حيث يمكن لمالك المال سواء كان عقارا أم منقولا أن يعيره لغيره لمدة معينة أو غير معينة ، عملا بالمواد 804-832 من مجلة الأحكام العدلية . فإذا امتنع المستعير عن إعادة المال لمالكه كان له إقامة دعوى رد العارية لدى محكمة الصلح ، ويشترط لقبول هذه الدعوى عدم وجود نزاع على الملكية .(3)
  • الانتفاع بالأجزاء المشتركة وصيانتها في المباني المتعددة الطوابق، مثل الانتفاع بالمدخل المشترك والمصعد والدرج والسطح وموقف السيارات إن وجد، والالتزام بتكاليف صيانة هذه الأجزاء المشتركة كالصيانة الدورية للمصعد، وثمن الكهرباء وتنظيف الدرج والساحات المشتركة.
  • الدعاوى والطلبات التي تنص القوانين الأخرى على اختصاص محكمة الصلح بها.

      وفي هذا المجال نجد أن المادة (167) من قانون الإجراءات الجزائية رقم (3) لسنة 2001 تنص على أنه ” تختص محاكم الصلح بنظر جميع المخالفات والجنح الواقعة ضمن اختصاصها، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك “.

          كما يكون لمحكمة الصلح صفة محكمة الاستئناف بالنسبة للطعن المقدم من المدعي بالحق المدني في القرار الصادر من النائب العام في التظلم من القرار الصادر بحفظ الدعوى حال أن كان الفعل جنحة أو مخالفة ، عملا بالمادة 153 من قانون الإجراءات الجزائية المذكور.

  • دعاوى التصحيح في سجلات وقيود الأحوال المدنية، مثل تصحيح الاسم في شهادة الميلاد أو بطاقة الهوية الشخصية. (4)

المبحث الثاني

الاختصاص النوعي لمحكمة البداية

      محكمة البداية هي صاحبة الولاية العامة في نظر جميع الدعاوى والطلبات إلا ما استثني منها بنص خاص، (5) فهي تختص بالدعاوى التي لا تدخل في اختصاص أي محكمة أخرى بما في ذلك محكمة الصلح عملا بالمادة (41) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية .

      كما أن المشرع ينص على اختصاص محكمة البداية بدعاوى معينة بغض النظر عن قيمتها، إما لتأكيد اختصاصها بالدعوى باعتبارها دعوى غير قابلة للتقدير كما سبق بيانه، أو رغبة من المشرع في أن تنظر الدعوى القابلة للتقدير ولو كانت قيمتها لا تتجاوز عشرة آلاف دينار، من محكمة البداية لما يراه من أهمية خاصة لهذه الدعوى بالنظر إلى نوعها . وأهم هذه الدعاوى دعاوى شهر الإفلاس والصلح الواقي عملا بالمادتين 290 و 317 من قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966، ومنها في القانون المدني الأردني دعاوى الحجر على المدين المفلس وفق المادة 375 منه .

          ومتى انعقد الاختصاص لمحكمة البداية بنظر الدعوى، فإنها تختص كذلك بالطلبات الوقتية والمستعجلة والعارضة وبأي طلب مرتبط بالطلب الأصلي مهما كانت قيمتها أو نوعها، فإذا قدم طلب عارض لا تجاوز قيمته عشرة ألاف دينار اختصت بنظره رغم دخوله في نطاق اختصاص محكمة الصلح طالما كانت محكمة البداية مختصة نوعيا بالطلب الأصلي عند رفع الدعوى إليها. أما إذا كانت غير مختصة في هذا الوقت بنظر الطلب الأصلي، فإنها تظل غير مختصة به حتى لو قدم لها طلب عارض يدخل في اختصاصها النوعي، إذ يعتبر هذا الطلب فرعا يتبع الطلب الأصلي. وعندها يتعين عليها أن تقضي بعدم اختصاصها بنظر الطلب الأصلي نوعيا وتحيله إلى محكمة الصلح، أما الطلب العارض وهو يدخل في اختصاصها النوعي، إن كان قد رفع إليها بإبدائه في الجلسة قضت في ذات الحكم بعدم قبوله لرفعه بغير الطريق الذي رسمه القانون. أما إن كان رفع بالإجراءات العادية لرفع الدعوى استقام أمامها وتصدت له.


(1) جرى العمل في المحاكم على عدم التفرقة بين دعوى منع التعرض ( المعارضة) ودعوى الملكية بحيث يكون موضوع الدعوى – إثبات الملكية ومنع المعارضة في عقار – ، كما تشترط المحاكم للحكم بمنع المعارضة أن يثبت المدعي ملكيته للعقار موضوع الدعوى وأن المدعى عليه يعارضه فيها. علما بأن دعوى الملكية تتناول أصل الحق ذاته، بينما دعوى منع المعارضة أو التعرض تتناول الحيازة، وأن وسائل إثبات كل من الدعويين تختلف عن الأخرى، لذلك نجد أن المشرع المصري نص صراحة في المادة 44 من قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية على أنه : لا يجوز أن يجمع المدعي في دعوى الحيازة بينها وبين المطالبة بالحق وإلا سقط ادعاؤه بالحيازة.

          ولا يجوز أن يدفع المدعى عليه دعوى الحيازة بالاستناد إلى الحق، ولا تقبل دعواه بالحق قبل الفصل في دعوى الحيازة وتنفيذ الحكم الذي يصدر فيها إلا إذا تخلى بالفعل عن الحيازة لخصمه.

          وكذلك لا يجوز الحكم في دعاوى الحيازة على أساس ثبوت الحق أو نفيه.

          وقد كان قانون محاكم الصلح رقم 15 لسنة 1952 الأردني ينظم دعوى إعادة اليد من دعاوى الحيازة في المواد 15-22 منه مبينا شروط سماعها، ولكن قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2001 اكتفى بالنص على اختصاص محاكم الصلح بالمنازعات المتعلقة بوضع اليد دون بيان شروطها، لذلك ينبغي تطبيق القواعد العامة الواردة في مجلة الأحكام العدلية في المادتين 1754و1755.

(2) كما أن طلب التصديق على قرار المحكم الذي يتعلق بأرض مختلف على حدودها وأن المحكم أصدر قراره المطلوب التصديق عليه مبينا فيه الحد بين المستدعي والمستدعى ضده بموجب صورة المخطط المرفق بالقرار المذكور يكون من اختصاص محكمة الصلح وفق أحكام المادة 39/و . نقض مدني 38/2008 تاريخ 2/7/2008 ج 4 ص 364.

(3) يرجع في ذلك لأحكام محكمة النقض في غزة – على موقع المقتفي التابع لمعهد الحقوق بجامعة بير زيت.

(4) أضيفت هذه الفقرة بالقانون المعدل رقم 5 لسنة 2005. أما تصحيح القيود في دوائر المالية وتسجيل الأراضي فإنها تبقى من اختصاص محاكم البداية باعتبارها غير مقدرة القيمة.

(5) طلب مدني ( تعيين مرجع) رقم 29/2007 تاريخ 20/5/2008 ج 4 ص 81.