الوجيز في شرح قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005

مقدمة

قرر المشرع في الدولة الحديثة عدم جواز استيفاء الحق بالذات؛ واعتبرها جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات. (1) وفي المقابل رسم لصاحب الحق الطريق للوصول إلى حقه؛ إما عن طريق اللجوء إلى القضاء كسلطة عامة للحصول على حكم يقرر له هذا الحق وفق إجراءات محددة في قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية (المرافعات) أو عن طريق التحكيم وفق قانون التحكيم. كما حدد له طريق إثبات هذا الحق في قانون البينات (الإثبات).

غير أن حصول الشخص على حكم قضائي أو قرار تحكيم لا يكفي وحده، لأن الحماية القضائية لا تكتمل إلا بتنفيذ ما قرره هذا الحكم أو القرار؛ وحصول صاحب الحق على حقه فعلا. لذلك كان قانون التنفيذ هو خاتمة هذه السلسلة من التشريعات ليقوم بدوره في إيصال الحق إلى صاحبه؛ وإجبار المدين على تنفيذ الالتزام المترتب عليه لمصلحة الدائن، حيث نظم قواعد التنفيذ التي تحافظ على الأمن والنظام العام بصفتها صورة من صور الحماية القضائية، ومن هنا كانت العلاقة بين هذا القانون وكل من قانون أصول المحاكمات وقانون البينات علاقة تكاملية، لأنه لا فائدة من حكم لا يترجم إلى واقع فعلي عن طريق ما اصطلح عليه بالتنفيذ.

كما أن التشريعات المعاصرة لم تقصر إمكانية التنفيذ على الأحكام القضائية وقرارات التحكيم فحسب، بل أجازت التنفيذ مباشرة بمقتضى السندات الرسمية والعرفية والأوراق التجارية القابلة للتداول، لأن المدين قلما ينازع في صحة هذه السندات؛ ما دام توقيعه ثابتا في السند. وقد أخذ المشرع الفلسطيني في قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005 بهذا الاتجاه.(2)

لذلك بعد شرح كل من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2001، وقانون البينات في المواد المدنية والتجارية رقم 4 لسنة 2001، وقانون التحكيم رقم 3 لسنة 2000، وجدت من المناسب شرح قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005، لتكتمل مجموعة التشريعات التي تعنى بتنظيم الشكل في الحصول على الحق الموضوعي، فكان هذا الكتاب نتيجة جهد متواضع، آملا أن يكون من العلم الذي ينتفع به، وذا فائدة للدارسين والزملاء المحامين والسادة قضاة التنفيذ.

الخليل في 10/ذو الحجة/1440 ه

الموافق 31/07/2020 مـ

المؤلف

تمهيد

التنفيذ لغة هو قضاء الأمر فيقال نفذ المأمور الأمر؛ أي قضاه وأجراه. (1) والتنفيذ في الحكم، الإجراء العملي لما قضى به. (2)

أما الاصطلاح الفقهي فيقصد به اقتضاء حق المرء بذمة آخر، أو هو الوفاء بالالتزام عينا أو بما يقابله مما يقبله الدائن أو يعتبره القانون عوضا عنه، وذلك إبراء لذمة المدين.(3) والتنفيذ الجبري هو التنفيذ الذي تجريه السلطة العامة تحت إشراف القضاء ورقابته، بناء على طلب دائن بيده سند مستوف لشروط خاصة، بقصد استيفاء حقه الثابت في السند من المدين قهرا عنه، في حالة امتناع المدين عن الوفاء برضاه. (4)

ويأخذ التنفيذ في الاعتبار تحقيق التوازن بين مصلحة الدائن في الحصول على حقه المشروع، وبين مصلحة المدين في عدم الاعتداء على أمواله وحريته دون حق؛ مع مراعاة الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية له. فضلا عن مراعاة مصلحة باقي الدائنين ومصلحة الغير؛ وتبسيط إجراءات التنفيذ؛ وتطوير أساليبه، بما يؤمن القضاء على ظاهرة تعطيل وتأخير الأحكام والسندات التنفيذية، بحيث يستطيع صاحب الحق استيفاء حقه بأقصر الطرق وفي أقل مدة من الزمن.

وندرس التنفيذ في فصل تمهيدي، وبابين على النحو التالي:

الفصل التمهيدي: الأحكام المستحدثة في قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005.

الباب الأول: الأركان الموضوعية للتنفيذ.

الباب الثاني: الأركان الإجرائية للتنفيذ الجبري.

الفصل التمهيدي

الأحكام المستحدثة في قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005

صدر قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005 بتاريخ 22/12/2005، ونشر في الصفحة 46 من العدد (63) من الوقائع الفلسطينية بتاريخ 27/4/2006 وأصبح نافذا وعمل به بعد 30 يوما من تاريخ نشره.

وقد تضمن هذا القانون أحكاما مستحدثة منها:

  1. أطلق المشرع اصطلاح (قانون التنفيذ) على القانون الجديد؛ بدل اصطلاح (قانون الإجراء) الذي أطلقه على القانون السابق. وهذا الاصطلاح الجديد أدق من السابق؛ لأن كلمة إجراء تعبر عن الأصول المتبعة.
  2. استبدل دائرة الإجراء والرئيس والمأمور، باصطلاح (دائرة التنفيذ) و (قاضي التنفيذ) و (مأمور التنفيذ). (1)
  3. وسع من صلاحيات قاضي التنفيذ القضائية، فأجاز له الفصل في المنازعات الوقتية والإشكالات التي تعترض التنفيذ. (2)
  4. استحدث تحديد الشروط الواجب توافرها في الحق محل التنفيذ؛ فنص صراحة على عدم جواز التنفيذ إلا بسند تنفيذي اقتضاء لحقوق مؤكدة في وجودها ومحددة في أطرافها ومعينة في مقدارها وحالة الأداء. (3) لتحقيق التوازن بين مصلحة الدائن ومصلحة المدين، ووحد أحكام هذه السندات بعد أن كانت موزعة بين قانون الإجراء وقانون ذيل الإجراء.
  5. عدل الأحكام التي تتعلق بتنفيذ السندات الرسمية والعرفية والأوراق التجارية القابلة للتظهير، وذلك لضمان تنفيذ هذه السندات، وجاء بأحكام عامة؛ وأوجب في تنفيذ هذه السندات مراعاة الأمور الآتية:
  1. أجاز للدائن أن يطلب من دائرة التنفيذ تحصيل دينه من المظهرين والكفلاء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ الاحتجاج إذا كان هذا الاحتجاج يوجبه القانون. (4)
  2. أجاز للمدين بعد تبليغه الإخطار بالدفع أن يعترض على الوفاء خلال سبعة أيام من تاريخ التبليغ. (5)
  3. تتم المثابرة على التنفيذ إذا لم يقدم الاعتراض في الموعد المحدد، وفي هذه الحالة إذا استوفى الدائن دينه كله أو بعضه؛ فللمدين أن يقيم دعوى استرداد ما استوفي منه بغير حق. (6)
  4. إذا أقر المدين بالدين أو بقسم منه أمام قاضي التنفيذ؛ يدون الإقرار في محضر التنفيذ ويوقع عليه المدين وقاضي التنفيذ وتقوم دائرة التنفيذ بتنفيذ ما جرى الإقرار به.(7)
  5. إذا أنكر المدين الدين أو بعضه؛ أو أنكر استمراره في ذمته، كلف الدائن بمراجعة المحكمة المختصة؛ لإثبات ما وقع عليه الإنكار. (8) أما إذا لم ينكر المدين الدين ولكنه ادعى الوفاء بجزء منه، تواصل دائرة التنفيذ في هذه الحالة التنفيذ في حدود ما أقر به؛ وعلى المدين مراجعة المحكمة المختصة لإثبات ما يدعيه (الوفاء). (9)
  1. لم ينص على يمين الاستظهار التي أوجبتها المادة 28 من قانون الإجراء الملغى عند وفاة المدين قبل وفاء الدين المحكوم به، مكتفيا بالنص عليها في مجلة الأحكام العدلية.
  2. وحد نسبة الحجز على الأجور والرواتب والمعاشات للموظفين والمستخدمين والمتقاعدين والعمال، فمنع حجز أكثر من ربع الرواتب؛ بعد أن كان قانون الإجراء الملغى يفرق بين الموظفين العاملين والموظفين المتقاعدين. (10)
  3. استحدث أحكاما جديدة عند الحجز على أموال المدين، فأجاز لمأمور الحجز تعيين حارس على الأموال المحجوزة في الأحوال التي تقتضي ذلك. واوجب تعيين المحجوز عليه إذا طلب ذلك إلا إذا خيف التبديد وكانت لذلك أسباب معقولة تذكر في المحضر.(11)
  4. جعل القانون المدين حارسا للعقار غير المؤجر بعد انتهاء معاملة وضع اليد عليه؛ إلى أن يتم بيعه، ما لم يقرر قاضي التنفيذ عزله من الحراسة أو تحديد سلطاته عليه.(12) وبذلك شدد من مسئولية المدين وأوجب عليه أن يبذل في حفظه عناية الرجل المعتاد، وأن يمتنع عن القيام بأي عمل يؤدي إلى نقصان قيمته. وهذا الحكم أفضل من نص المادة 84 من قانون الإجراء الملغى التي أجازت أن تترك في يد المدين أمواله غير المنقولة التي تحت يده وأوقع الحجز عليها إلى أن تنتهي المزايدة؛ على أنه إذا خربها أو قام بأي عمل أدى إلى نقصان قيمتها أو امتنع عن أن يريها لطلبي الشراء فلرئيس التنفيذ أن يقرر لزوم تخليتها.
  5. ألغى دعوى استرداد الأموال غير المنقولة التي نصت عليها المادتان 103 و 104 من قانون الإجراء الملغى. وكان الأولى بالمشرع أن ينظم هذه الدعوى بصياغة جديدة؛ لأنها تطبيق للقاعدة التي تقضي بأن التنفيذ يجب أن يصب على الأموال المملوكة للمدين وليس على أموال غيره. (13)
  6. ألغى حكم المادة 2 من قانون الإجراء الملغى الذي أجاز للمحكوم له أن يطلب من أية دائرة من دوائر التنفيذ تنفيذ الحكم الذي بيده. وهو أمر جيد؛ لأن ترك الخيار للدائن في طلب تنفيذ الحكم الذي بيده من أية دائرة من دوائر التنفيذ يلحق الظلم والأذى بالمدين إذا اختار الدائن دائرة تنفيذ بعيدة عن موطن المدين أو سكنه مما يجلب المشقة والعنت للمدين.
  7. استحدث في المادة 72 حكما جديدا ألزم بموجبه أن يكون إخطار التبليغ الموجه للغير المحجوز لديه أموال المدين المنقولة والمبالغ والديون؛ مشتملا على البيانات الآتية:
  1. صورة السند التنفيذي الذي يوقع الحجز بمقتضاه.
  2. بيان أصل المبلغ المحجوز من أجله وفوائده والمصاريف.
  3. منع الشخص الثالث المحجوز لديه عن الوفاء بما في يده إلى المدين المحجوز عليه أو تسليمه إياه مع تعيين المحجوز عليه تعيينا نافيا للجهالة.

وقد أحسن المشرع بإيراد هذا الحكم، لأن احتواء إخطار التبليغ على هذه البيانات، سيؤدي إلى أن يصبح المحجوز لديه على علم بإجراءات التنفيذ، وأنه سيكون مسئولا في حالة مخالفتها، كما أن هذه الإجراءات تهدف إلى الحفاظ على مصالح دائن الغير؛ المدين المحجوز عليه. (14)

  1. زاد مقدار المبلغ الذي لا يجوز أن تتجاوز مدة الحبس عن 21 يوما من 20 دينارا إلى 500 دينار. (15)
  2. أقر الاتجاه الذي يرى بعدم جواز تنفيذ الحكم القضائي إلا إذا اكتسب الدرجة القطعية عملا بالمادة 19/1 من قانون التنفيذ التي نصت على أنه (لا يجوز التنفيذ الجبري للأحكام والقرارات والأوامر القضائية …… ما دام الطعن فيها بالاستئناف جائزا، إلا إذا كان التنفيذ المعجل منصوصا عليه في القانون أو مشمولا في الحكم أو القرار القضائي). وهذا النص موفق لأنه يحقق العدالة ويتفادى الضرر الجسيم الذي قد يلحق بمن نقض الحكم لصالحه.

ومن ناحية أخرى فقد أبقى المشرع على ما كانت تقرره المادة 85 من قانون الإجراء الملغى التي كانت تجيز للمدين أن يبيع الأموال غير المنقولة المحجوزة من قبل المدين نفسه إذا حصل على إذن من دائرة التنفيذ ببيعها؛ وبشرط أن يقتطع عند البيع الدين المحكوم به مع فوائده والرسوم. (16) فنص في المادة 117 على أنه (يجوز لقاضي التنفيذ بقرار يصدره أن يأذن للمدين بأن يبيع او يفرغ للآخرين أمواله غير المنقولة المحجوزة بشرط أن يقتطع من ثمنها حين البيع أو الفراغ قيمة الدين المحكوم به مع الرسوم والنفقات).

(1)(1) نصت المادة (233) من قانون العقوبات رقم 16لسنة 1960 على أنه (من استوفى حقه بنفسه وهو قادر على أن يراجع في الحال السلطة ذات الصلاحية يعاقب بغرامة لا تتجاوز عشرة دنانير). وتنص المادة (234) منه على أنه (إذا اقترن الفعل المذكور في المادة السابقة بالعنف، عوقب الفاعل بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تزيد على خمسة وعشرين دينارا). غير أن الملاحقة تتوقف على شكوى الفريق المتضرر إذا لم تقترن الجنحة المذكورة بجريمة أخرى تجوز ملاحقتها بلا شكوى عملا بالمادة 235.

(2)(2) وهو ما أخذ به قانون الإجراء رقم 31 لسنة 1952 الملغى.

(1)(1) ابن منظور، لسان العرب، الطبعة الأولى، المجلد السادس، بيروت، دار صادر، 19986، صفحة 4496.

(2)(2) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1960.

(3)(3) أحمد هندي، أصول التنفيذ، الدار الجامعية، 1993، صفحة 6.

(4)(4) أحمد أبو الوفا، إجراءات التنفيذ في المواد المدنية والتجارية، ط3، الدار الجامعية، 1986، صفحة 29. عباس العبودي؛ شرح أحكام قانون التنفيذ، الطبعة الأولى/ الإصدار الثاني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2006، صفحة 14. سعيد مبارك أحكام قانون التنفيذ رقم 45 لسنة 1980، الطبعة الأولى 1989 صفحة 76. وقد نصت المادة 236 من قانون المرافعات والتنفيذ اليمني على أن التنفيذ هو ما تصدره المحكمة من أوامر وقرارات وأحكام وما تقوم به من إجراءات في سبيل تنفيذ الأحكام وغيرها لاستيفاء صاحب الحق حقه.

(1)(1) المادة الأولى من قانون التنفيذ.

(2)(2) المادة 58.

(3)(3) المادة 8/1. مسايرا بذلك غالبية التشريعات المعاصرة ومنها قانون المرافعات المصري وقانون التنفيذ الأردني رقم 36 لسنة 2002.

(4)(4) مادة 28.

(5)(5) مادة 30/2.

(6)(6) مادة 34.

(7)(7) مادة 31.

(8)(8) مادة 32/1.

(9)(9) مادة 33.

(10)(10) مادة 51.

(11)(11) مادة 88/1. وقد اقتبس أحكام تعيين الحارس على الأشياء المحجوزة من المواد 361 – 373 من قانون المرافعات المصري.

(12)(12) مادة 115/1.

(13)(13) نظم قانون المرافعات المصري هذه الدعوى في المادة 454 والتي جاء فيها (يجوز للغير طلب بطلان إجراءات التنفيذ مع طلب استحقاق العقار المحجوز عليه أو بعضه ولو بعد انتهاء الميعاد المقرر للاعتراض على قائمة شروط البيع وذلك بدعوى ترفع بالأوضاع المعتادة أمام المحكمة المختصة ويختصم فيها من يباشر الإجراءات والمدين والحائز أو الكفيل العيني وأول الدائنين المقيدين).

(14)(14) اقتبس المشرع هذا الحكم من المادة 328 من قانون المرافعات المصري.

(15)(15) مادة 157/2.

(16)(16) في حين أغفل قانون التنفيذ الأردني ما كانت تقرره المادة 85 من قانون الإجراء، ولذلك فقد كان محل نقد من قبل الفقه الذي طالب بإعادة النظر في منع المدين من بيع أمواله غير المنقولة لأن السماح له بذلك دون مزايدة يحمي مصلحته ويمكنه من بيع هذه الأموال؛ وقد يحصل على فرصة جديدة في العثور على مشتر لأمواله بقيمة أكبر مما لو وضعت في المزايدة، خاصة أن هذا البيع لا يضر بالدائن لأنه سوف يحصل على حقه من بدل البيع ويجنبه انتظار إكمال معاملة البيع وما تستغرقه من مدة طويلة. يرجع إلى عباس العبودي، المرجع السابق، صفحة 22.