الفصل الخامس – إعادة المحاكمة

المبحث الثاني

أسباب طلب إعادة المحاكمة

      حددت المادة 251 من قانون اصول المحاكمات المدنية والتجارية أسباب طلب إعادة المحاكمة على سبيل الحصر، فلا يجوز القياس عليها. ذلك أن الأصل أنه لا يجوز للمحكمة إعادة نظر نزاع فصلت فيه، غير أن المشرع أجاز لها استثناء في حالات معينة تصحيح حكمها رجوعا إلى الحق والعدل لأن الخطأ في هذا الحكم لا يعود لها، بل يعود لأحد الخصوم، وهذه الحالات هي:

أولا: إذا تم الحصول على الحكم بطريق الغش أو الحيلة

      ويقصد بالغش جميع الوسائل الاحتيالية غير المشروعة التي يلجأ إليها أحد الخصوم أو من يمثله، بقصد تضليل المحكمة وإيقاعها في الغلط، بحيث تتصور الباطل صحيحا وتحكم بناء على هذا التصور لصالح من ارتكب الغش ضد طالب إعادة المحاكمة.

      ومثال ذلك: الاتفاق مع المحضر على عدم تبليغ الخصم بصورة صحيحة، أو الاتفاق مع محامي الخصم على خيانة موكله، أو رشوة الشهود أو استعمال وسائل الإكراه مع خصمه لمنعه من تقديم دفاعه أو سرقة المراسلات التي يرسلها الخصم إلى محاميه، أو منع وصول تعليمات الخصم إلى وكيله … الخ.

      ولا يعتبر غشا مجرد الكذب، أو استعمال حيلة مشروعة أثناء الدفاع، أو السكوت بعض الوقت عن إبداء دفع معين، أو حلف يمين كاذب(1).

      والوسائل الاحتيالية لا تقبل الحصر، وتقدير ما يعتبر غشا وما لا يعتبر مسألة موضوعية تخضع لتقدير المحكمة حسب ظروف كل حالة.

      ويشترط في الغش حتى يعتبر سببا لإعادة المحاكمة:

  1. أن يصدر من المحكوم له أو من يمثله، فلا يعتد بالغش الصادر من الغير مهما كان له من أثر في الحكم إذا لم يكن المحكوم له شريكا معه فيه، أو كان يعلم أو من المفروض أن يعلم بالغش الذي ارتكبه الغير.

      وإذا تعدد الخصوم وارتكب أحدهم غشا، فإن الطعن بإعادة المحاكمة يقتصر على من ارتكب الغش أو الحيلة وحده دون زملائه من المحكوم لهم، إلا إذا كان الحكم لا يقبل التجزئة، فيوجه الطعن إلى جميع الخصوم(1).

  • أن يحصل الغش في مواجهة المحكوم عليه أثناء نظر الدعوى،
  • ألا يكون المحكوم عليه عالما بذلك الغش أثناء الخصومة التي صدر فيها الحكم المطعون فيه، فالغش المجيز لإعادة المحاكمة هو الذي يكون خافيا على الخصم طيلة سير الخصومة وحتى صدور الحكم، بحيث لم تتح له الفرصة لتقديم دفاعه فيه لجهله به، لذلك يشترط أن لا تكون الوقائع المدعى بأنها تكون الغش قد سبق عرضها ومناقشتها أمام المحكمة من طرفي الخصومة.
  • أن يكون الغش قد أثر على حكم المحكمة، أي أن يتبين أنه لولا الغش لتغير حكم المحكمة بحيث ما كانت تنتهي إلى ما قضت به لولا وقوعها تحت تأثير الغش. أما إذا كان الحكم غير مبني على الوقائع التي تناولها الغش، ولم يكن من شأنه أن يؤثر في رأيها إذا ثبتت لها الحقيقة، وإنما بني الحكم على وقائع صحيحة، فلا يجوز الطعن فيه بطريق إعادة المحاكمة.

      ويجب أن يثبت طالب إعادة المحاكمة وجود الغش، وتأثيره في رأي القضاة.

ثانيا: إذا بني الحكم على مستند تم بعد صدوره إقرار بتزويره أو قضي بهذا التزوير

      وهذا السبب يدخل في نطاق السبب الأول، فالخصم الذي يستعمل أوراقا مزورة بقصد تضليل المحكمة وإيقاعها في الغلط، إنما يكون قد ارتكب غشا كان من شأنه التأثير في الحكم.

      ويستوي أن يكون التزوير بورقة رسمية أو عرفية، وأن يكون بفعل المطعون ضده أو بفعل شخص من الغير، وذلك لأن الحكم في هذه الحالة يكون قد استند أساسا إلى دليل ثبت فساده.

      ويشترط حتى يكون التزوير سببا لإعادة المحاكمة ما يأتي:

  1. أن يبنى الحكم المطعون فيه على ورقة أو مستند مزور اتخذ أساسا للحكم، أي أنه لولا وجود هذا المستند واعتقاد المحكمة بصحته ما قضت لمصلحة المتمسك به.

      ولا يشترط أن تكون الورقة أو المستند الدليل الوحيد الذي يبنى عليه الحكم، بل يكفي أن يكون قد ساهم في تكوين قناعة القاضي وكان له تأثير حاسم في ما انتهى إليه، ولولاه لما صدر الحكم بما هو عليه.

      أما إذا قدم مستند مزور، ولكن المحكمة بنت حكمها على أدلة أخرى وكذلك الحال إذا بني الحكم على أسباب عدة كان من بينها الورقة أو المستند المزور، ولكن لم يكن للورقة أو المستند شأن كبير في تكوين قناعة المحكمة، بحيث كان يمكن الوصول إلى ذات النتيجة بناء على الأسباب الأخرى دون الورقة المزورة، فلا يشكل هذا التزوير سببا لإعادة المحاكمة. وتقدير ذلك يعود للمحكمة التي تنظر طلب إعادة المحاكمة.

  • أن يثبت التزوير إما بإقرار المزور، أو بحكم من القضاء بتزويرها، سواء صدر الحكم من محكمة مدنية أم جزائية، ويشترط لتقديم الطعن بإعادة المحاكمة أن يكتسب الحكم بالتزوير الدرجة القطعية.
  • أن يثبت التزوير بإحدى هاتين الطريقتين بعد صدور الحكم المطعون فيه، وقبل تقديم طلب إعادة المحاكمة. فلا يقبل طلب إعادة المحاكمة إذا لم يثبت التزوير قبل تقديم طلب الإعادة، وكان الغرض من طلب إعادة المحاكمة السعي إلى إثبات التزوير، لأن إعادة المحاكمة وسيلة لإصلاح حكم بني على ورقة مزورة وليس وسيلة لإثبات التزوير.

ثالثا: إذا بني الحكم على شهادة شاهد قضي بعد صدوره بزورها

ويشترط لقبول إعادة المحاكمة في هذه الحالة:

  1. أن يبنى الحكم المطعون فيه على الشهادة الكاذبة، بحيث تكون ذات تأثير كلي على ما ورد في الحكم المطعون فيه، ولولا اعتقاد المحكمة بصحتها لما اتجهت المحكمة الاتجاه الذي قضت به.
  2. أن يثبت زور هذه الشهادة بحكم من القضاء يصدر بعد صدور الحكم المطعون فيه. فلو قضي بكذب الشهادة قبل صدور الحكم لأمكن الخصم أن يعتد بهذا السبب أمام المحكمة فيغير من قناعتها.
  3. أن يصدر الحكم قبل تقديم طلب إعادة المحاكمة، فلا يقبل الطعن إذا كان بغرض السعي إلى إثبات زور الشهادة.
  4. أن يكون الحكم الذي قضى بكذب الشهادة قد اكتسب الدرجة القطعية.

رابعا: إذا حصل طالب الإعادة بعد صدور الحكم على أوراق لها تأثير في الحكم كان خصمه قد أخفاها أو حمل الغير على إخفائها.

      ومثال هذه الحالة أن يحكم على المدعى عليه بدفع مبلغ معين لأنه لم يقدم مخالصة كانت تحت يد خصمه، ثم حصل عليها بعد صدور الحكم عليه.

      ويشترط في هذه الحالة:

  1. أن تكون الأوراق منتجة في الدعوى، أي صالحة لأن تكون أساسا للحكم وقاطعة في الدعوى، بحيث لو كانت قدمت لترتب على ذلك نجاح طالب الإعادة في طلباته أو دفاعه.

     وتقدير مسألة ما إذا كانت الأوراق منتجة في الدعوى ومؤثرة في الحكم أم لا، مسألة تدخل في تقدير المحكمة التي تنظر في طلب إعادة المحاكمة دون رقابة عليها من محكمة النقض متى بنت حكمها على أسباب كافية.

  • أن يكون المحكوم عليه قد أخفى هذه الأوراق أو حمل الغير على إخفائها، بمعنى أن تكون الأوراق قد حجزت حجزا ماديا بمعرفة الخصم الآخر، سواء بنفسه أم بالتواطؤ مع شخص خارج عن الخصومة.

      أما مجرد سكوت الخصم عن الإشارة لهذه الأوراق، أو إذا كانت ضائعة أو كانت في يد شخص ثالث بغير تواطؤ من المحكوم له، أو كان الطالب يستفيد من الورقة المحجوزة لوجود أصلها في السجلات العامة بحيث كان يمكنه طلب إطلاع المحكمة عليها أو تقديم صورة عنها، فلا يجوز طلب إعادة المحاكمة.

      ويفترض بطبيعة الحال أن يكون المحكوم له ملزما بتسليم الورقة أو وضعها تحت تصرف الطاعن، إذ بغير هذا لا يكون الخصم هو الذي أخفى الورقة.

  • ألا يكون طالب إعادة المحاكمة على علم بوجود الأوراق تحت يد خصمه، وإلا لأمكنه طلب تقديمها عملا بالمادة 28 من قانون البينات فإذا كان عالما بوجودها تحت يد خصمه ولم يطلب منه تقديمها يتحمل تبعة تقصيره ولا يقبل منه طلب إعادة المحاكمة.
  • أن تظهر هذه الأوراق بعد صدور الحكم المطعون فيه وقبل تقديم طلب الإعادة، أي أن يحصل على تلك الأوراق بعد صدور الحكم بحيث تكون في يده عند تقديم طلب إعادة المحاكمة. أما إذا حصل عليها قبل صدور الحكم ولم يقدمها للمحكمة فلا يقبل منه طلب إعادة المحاكمة.
  •  

خامسا: إذا قضى الحكم بشيء لم يطلبه الخصوم أو بأكثر مما طلبوه.

      الأصل أن تتقيد المحكمة بحدود طلبات الخصوم المقدمة إليها ولا تحكم بأكثر مما طلبوه، فإذا حكمت بشيء لم يطلبه الخصوم أو بأكثر مما طلبوه سهوا أو خطأ عن غير قصد، كان حكمها عرضة للطعن فيه بطريق إعادة المحاكمة.

      مثال ذلك أن تحكم المحكمة للمدعي بملكية عين في حين أنه لم يطلب سوى حق الانتفاع بها، أو حق الارتفاق عليها. أو أن تحكم بالفوائد على الرغم من أن المدعي كان قد اقتصر على طلب الدين فقط. أو أن يطلب المدعي ألف دينار فتحكم له المحكمة بالف ومئة. أو أن تحكم بريع العين على الرغم من أن المدعي قد طلب الحكم له بالملكية فقط.

      ولا يتوفر الحكم بغير المطلوب عندما تحكم المحكمة بأكثر مما قدره الخبير، أو بأكثر مما قال به الشهود، إذا كان ما حكم به قد بقي ضمن حدود المبلغ الذي طلبه المحكوم له. كما أن الحكم بأقل مما طلبه الخصوم لا يكون سببا للطعن بإعادة المحاكمة لأن معنى ذلك أن المحكمة رفضت بقية الطلب.

سادسا: إذا كان منطوق الحكم  مناقضا بعضه بعضا

      فالتناقض المجيز للطعن بإعادة المحاكمة هو التناقض في منطوق الحكم، لذلك لا يعتد بالتناقض بين بعض أسباب الحكم وبعضها الآخر وإن كان هذا التناقض قد يؤدي إلى اعتبار الحكم خاليا من الأسباب التي تبرره فيعتبر باطلا.

كما لا يعد سببا لطلب إعادة المحاكمة التناقض بين أسباب الحكم ومنطوقه إنما سببا للطعن فيه بالنقض، إلا إذا كانت الأسباب متصلة بالمنطوق اتصالا وثيقا بحيث تشكل الركيزة الضرورية له، فهنا يصبح التناقض في منطوق الحكم.

      والتناقض الذي يعتد به هو الذي يؤدي إلى استحالة تنفيذ الحكم، مثال أن تقرر المحكمة استبعاد تقرير الخبراء أو بطلانه، وفي الوقت نفسه تستند إلى ما جاء في هذا التقرير. أو أن تقضي بقبول المقاصة التي تمسك بها المدعى عليه، وتحكم في الوقت ذاته بإلزام المدعى عليه بدفع الدين.

      أما إذا كان التناقض في منطوق الحكم ناشئا عن خطأ مادي، فإنه يتم سلوك طريق تصحيح الحكم لا الطعن فيه بطريق إعادة المحاكمة.


(1) د. أحمد هندي،1989، ص 417.

(1) مفلح القضاة، ص 339.