الفصل الثاني – أنواع القواعد القانونية

المطلب الثالث

معيار التمييز بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة

أو طريقة التعرف على نوع القاعدة

تبدو الأهمية العملية للتمييز بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة في أن الاتفاقات التي تخالف قاعدة آمرة تكون باطلة مطلقاً، بينما تكون التصرفات التي تستبعد تطبيق قاعدة مكملة صحيحة ولا تعد مخالفة للقانون لأن اتفاق المتعاقدين هذا جاء بترخيص من القانون ذاته .

وهناك معياران أو طريقتان يستعان بهما لإجراء هذا التمييز :

المعيار الأول : معيار شكلي أو لفظي يستند إلى عبارة النص ذاته.

والمعيار الثاني : معيار موضوعي أو معنوي يستند إلى فكرة النظام العام والآداب.

أولاً : المعيار الشكلي أو الطريقة اللفظية

تمكن هذه الطريقة من معرفة نوع القاعدة بالرجوع إلى نص المشرع ذاته، فإذا تبين من عبارات النص وألفاظه صراحة أو ضمنا، أن القاعدة آمرة ترتب على ذلك عدم إمكان مخالفة حكمها، أما إذا تبين أنها مكملة أمكن مخالفة هذا الحكم.

1-القواعدالآمرة

يعبر المشرع عن القواعد الآمرة بألفاظ عدة، مثل عدم جواز الاتفاق على مخالفتها، أو أن الخروج عليها يعد باطلاً، أو يضع النص في صيغة الأمر أو النهي كأن ينص على أنه يلزم، أو يجب أو يتعين، أو لا يجوز، أو لا يصح، إلى غير ذلك من العبارات. مثال ذلك القواعد التالية :

  1. المادة 47 مدني ونصها : ” ليس لأحد النزول عن حريته الشخصية ولا عن أهليته أو التعديل في أحكامها “. وتقابلها المادة 57 من مشروع القانون المدني الفلسطيني.
  2. المادة 157 مدني ونصها : ” يجب أن يكون لكل عقد محل يضاف إليه “.
  3. المادة 166/1 مدني ونصها : ” لا يصح العقد إذا لم تكن فيه منفعة مشروعة لعاقديه “.
  4. المادة 27 مدني ونصها : ” يقع باطلا كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على الفعل الضار “. وتقابلها المادة 190 من المشروع الفلسطيني.
  5. المادة 921 مدني ونصها : ” لا يجوز أن يكون محلا للتأمين كل ما يتعارض مع دين الدولة الرسمي أو النظام العام “.

ففي هذه الأمثلة يتبين لنا من ألفاظ النصوص وصياغتها أن القواعد القانونية الواردة فيها قواعد آمرة لا تصح مخالفتها.

ومن الأمثلة على هذه القواعد أيضا أن يقرر المشرع جزاء جنائيا على مخالفة القاعدة، فوجود الجزاء الجنائي قاطع في الدلالة على أن القاعدة التي يكفل نفاذها قاعدة آمرة، وإن كانت لا تتعلق مباشرة إلا بعلاقة فردية. من ذلك ما نصت عليه المادة 53 من قانون العمل رقم 2 لسنة 1965 حيث يعاقب صاحب العمل ومدير المؤسسة عن أية مخالفة لأي حكم من أحكام الفصلين العاشر الخاص بساعات العمل والعطل والإجازات، والحادي عشر الخاص باستخدام النساء والأولاد، أو أي نظام صادر بمقتضاهما بغرامة لا تتجاوز عشرين دينارا على كل مخالفة.

2-القواعدالمكملة

قد تتضمن عبارة القاعدة القانونية ما يبين أنها مكملة، وكثيرا ما يعبر المشرع في هذا المجال عن أن القاعدة تنطبق ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك، أو يصيغ النص بصورة تنفي معها فكرة الوجوب أو الأمر كأن يقول يجوز ، أو لا يلزم … إلى غير ذلك من الألفاظ. ومثال ذلك ما ورد في القانون المدني من نصوص منها :

  1. المادة 522 مدني ونصها : ” على المشتري تسليم الثمن عند التعاقد أولاً قبل تسلم المبيع أو المطالبة به ما لم يتفق على غير ذلك. وهي مستمدة من المادة 262 من مجلة الأحكام العدلية، وتقابل المادة 485 من المشروع الفلسطيني.
  2. المادة 678 مدني ونصها : ” للمؤجر أن يمتنع عن تسليم المأجور حتى يستوفي الأجر المعجل “.وهي مستمدة من المواد 472 و582 و583 من المجلة، وتقابل المادة 619 من المشروع الفلسطيني.
  3. المادة 499/2 مدني ونصها : ” إذا تضمن العقد أو اقتضى العرف إرسال المبيع إلى المشتري فلا يتم التسليم إلا إذا جرى إيصاله إليه ما لم يوجد اتفاق على غير ذلك “. وهي مستمدة من المواد 83 و 285و287 و293 من المجلة، وتقابل المادة 458 من المشروع الفلسطيني.
  4. المادة 531 مدني ونصها: ” نفقات تسليم الثمن وعقد البيع وتسجيله وغير ذلك من نفقات تكون على المشتري، ونفقات تسليم المبيع تكون على البائع ما لم يوجد اتفاق أو نص في قانون خاص يقضي بغير ذلك “. وهي مستمدة من المواد 288 و289 و292 من المجلة وتقابل المادة 494 من المشروع الفلسطيني.

ثانيا:المعيار الموضوعي أو فكرة النظام العام والآداب

إذا لم يبين النص نوع القاعدة صراحة، فإنه يلزم البحث عن طريقة أخرى، والنظر فيما إذا كان الحكم الوارد في تلك القاعدة يتعلق بكيان الجماعة ومصالحها الأساسية، أو أريد به حماية أشخاص أو فئة من فئات المجتمع كحماية الأسرة، أو استقرار المعاملات، أو حماية النظام السياسي في الدولة، فنكون أمام قاعدة آمرة. أم أنه علاقة خاصة بين الأفراد وليس فيها مساس بكيان الجماعة أو مصالحها الأساسية فنكون بصدد قاعدة مكملة.

مثال ذلك من القانون المدني :

  1. المادة 43/ 2 مدني ونصها : ” سن الرشد ثماني عشرة سنة شمسية كاملة “. وتقابلها المادة 53/2 من المشروع الفلسطيني.
  2. المادة 11 مدني ونصها: ” القانون الأردني هو المرجع في تكييف العلاقات عندما يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين لمعرفة القانون الواجب التطبيق من بينها. وتقابلها المادة 14 من المشروع الفلسطيني.
  3. المادة 6/1 مدني ونصها : ” تسري النصوص المتعلقة بالأهلية على جميع الأشخاص الذين تنطبق عليهم الشروط المقررة في تلك النصوص. وتقابلها المادة 10/1 من المشروع الفلسطيني.

فهذه النصوص لا تفصح عن نوع القاعدة الواردة بها، إلا أنه يتبين من معنى النص وموضوعه أنه يتعلق بمصلحة أساسية أو بنظام الجماعة كوحدة لها كيانها المستقل عن كل فرد من أفرادها وبهذا يقال بأن القاعدة تتعلق بالنظام العام أوالآداب، مما يؤدي إلى استقلال القانون بتنظيمها وبالتالي اعتبارها آمرة … ويستفاد ذلك من المادة 29 من القانون المدني التي تقول ” لا يجوز تطبيق أحكام القانون الأجنبي … إذا كانت هذه الأحكام تخالف النظام العام أو الآداب في المملكة الأردنية الهاشمية “. وتقابله المادة 36 من المشروع الفلسطيني. وكذلك الفقرة الثانية من المادة 163 التي تنص على أنه ” إذا منع الشارع التعامل في شيء أو كان مخالفا للنظام العام أو للآداب كان العقد باطلا “.

النظام العام إذن هو مجموع الأسس أو مجموعة المصالح الجوهرية التي يقوم عليها كيان المجتمع في الدولة سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية أو خلقية، أو مالية كما ترسمها القوانين المطبقة فيها .

فكل ما يتصل بالمصالح الأساسية العليا للنظام الاجتماعي في بلد معين هو من النظام العام، فالنصوص التي تحرم التعامل مع إسرائيل تتعلق بالنظام العام لأنها تحمي مصلحة سياسية، والنصوص التي تضع حدا أقصى لسعر الفائدة تتعلق بالنظام العام لأنها تحمي مصلحة اقتصادية، والنصوص التي تضع حدا أدنى لأجور العمال وحداً أعلى لساعات العمل تتعلق بالنظام العام لأنها تحمي مصلحة اجتماعية، والنصوص التي تحرم الدعارة أو القمار تتعلق بالنظام العام لأنها تحمي أحد الأسس الخلقية والنصوص التي تفرض السعر الإلزامي للعملة الورقية تتعلق بالنظام العام لأنها تحمي مصلحة مالية للجماعة.

أما الآداب العامة فهي مجموعة القواعد الخلقية التي تدين بها الجماعة في بيئة معينة وعصر معين.

فالآداب العامة ليست هي الأخلاق الشخصية للأفراد، وليست الأخلاق المثالية التي ينادي بها الفلاسفة والتي لا تتغير. بل الأخلاق العامة العملية التي يمارسها ويحسها جميع الناس وتعكس الضمير العام للجماعة، وتهدف إلى حماية الأصول الأساسية فيها، وهي بهذا تدخل في مفهوم النظام العام بمعناه الواسع، ومثالها كما قلنا النصوص التي تحرم الدعارة أو القمار .

وفكرة النظام العام فكرة مرنة ونسبية ، فهي تختلف من بلد إلى بلد، كما تتغير في البلد الواحد من زمان إلى زمان، كما تضيق دائرته أو تتسع وفقا لاتباع المذهب الفردي أو المذهب الاشتراكي. فتعدد الزوجات، وحق الطلاق من النظام العام في الدول الإسلامية، بعكس الدول الغربية التي لا يجوز فيها الجمع بين أكثر من زوجة ولا تعترف بحق الطلاق بمشيئة الزوج، كما أن التأمين على الحياة كان إلى وقت قريب مخالفا للنظام العام ولكنه أصبح من النظم السائدة والتي ينظمها القانون.

ويختلف مدى تعلق القاعدة القانونية بالنظام العام بحسب تقسيمها إلىقواعد قانون عام وقواعد قانون خاص. فالأصل أن كل قواعد القانون العام تتعلق بالنظام العام وتعتبر قواعد آمرة لأنها تنظم العلاقات بين الفرد والجماعة ؛ أو بين السلطات العامة في الجماعة.

ففي القانون الدستوري يعتبر من النظام العام كل ما يتصل بالحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور كحق الترشيح والانتخاب، والحرية الشخصية، وحرية الاجتماع، وغير ذلك، فلا يجوز لناخب مثلا أن يتفق مع مرشح على إعطائه صوته لمخالفة ذلك للنظام العام.

وفي القانون الإداري يعتبر من النظام العام كل ما يتصل بالوظيفة وتنظيم المرافق العامة وغير ذلك، فلا يجوز للموظف مثلا أن ينزل عن وظيفته لشخص آخر.

وفي القانون المالي يعتبر كل اتفاق يمس بالقواعد التي تقررها القوانين التي تفرض الضرائب مثلا باطلا، فلا يجوز الاتفاق على الإعفاء من الضريبة.

وفي القانون الجنائي لا يجوز الاتفاق على ارتكاب جريمة لقاء مبلغ من المال، أو أن يتحمل شخص العقوبة بدل شخص آخر.

أما قواعد القانون الخاص فانه يفرق فيها بين نوعين:

القواعد المتعلقة بالأحوال الشخصية ونظام الأسرة بصفة عامة وهي قواعد تتعلق بالنظام العام، كما في القواعد التي تحدد الأهلية ؛ والنسب ؛ والحقوق الزوجية كالنفقة والطاعة والطلاق.

والقواعد المتعلقة بالمسائل المالية والأصل أنها لا تتعلق بالنظام العام ، غير أن بعض هذه القواعد تتعلق بالنظام العام وهي القواعد التي يراد بها كفالة حق الشخص في التصرف في ملكه واستثماره كشرط المنع من التصرف مطلقا حيث يعتبر باطلاً، أو حماية الغير حسن النية ومناهضة الغش كالاتفاق على الإعفاء من المسؤولية عن الفعل الضار،أو حماية الطرف الضعيف في العقد كما في قواعد قانون العمل التي تهدف إلى حماية العامل.

ولا يقلل من أهمية القواعد المكملة أن تكون مقصورة على دائرة المعاملات المالية، لأن هذه الدائرة تشمل جزءا هاماً من نشاط الأفراد في المجتمع، وتمتد إلى عدد لا ينتهي من العلاقات القانونية.

ويتضح من ذلك أنه يتعذر حصر ما يدخل في النظام العام من القواعد، ولذلك لم يحددها المشرع تاركاً الأمر لتقدير القاضي الذي ينظر في كل حالة تعرض عليه، وهو في ذلك خاضع لرقابة محكمة التمييز.