الضفة الغربية و قانون الاحتلال الحربي

وعد بلفور وأثره على مسألة تحديد من هم السكان الذين تكمن فيهم السيادة في فلسطين:

صدر وعد بلفور في 2-11-1917 متضمنا الوعد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على أن لا يضر ذلك بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية ولا الحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلاد غيرها.

ولسنا هنا بصدد بيان مدى شرعية هذا الوعد1. ولكن ما يهمنا هو تحليل الرأي الذي يذهب إلى أنه وقت نفاذ الانتداب كان هناك جماعتان لهما الحق في ممارسة السيادة عند انتهاء الانتداب، ألا وهما السكان العرب المحليين والثانية اليهود المتواجدون في أنحاء العالم2. ذلك أن هذا الرأي يقوم على فرضيات خاطئة. فهو عندما يقرر أن الجماعة الأولى التي لها الحق في ممارسة السيادة عند انتهاء الانتداب هم السكان العرب يغفل القول إن العرب الفلسطينيين ينقسمون من حيث الديانة إلى مسلمين ومسيحيين ويهود، وأن من اليهود من اعتنق المسيحية ومنهم من اعتنق الإسلام كديانة، وبقي في فلسطين كجزء من الدولة الإسلامية، وتلك حقيقة تاريخية ثابتة.

أما القول بأن الفئة الثانية هم اليهود المتواجدون في أنحاء العالم فهو يغفل حقائق تاريخية أخرى منها:

أولا: أنه لم يثبت وجود هجرة يهودية من فلسطين إلى خارج حدود المنطقة العربية، وخاصة إلى أوروبا، بل ينحصر تنقل اتباع موسى بين مصر وفلسطين وبلاد الشام والعراق بشكل عام.

ثانيا: أن الديانة اليهودية قد انتشرت في أوروبا بالاعتناق وأوضح مثل على ذلك يهود أوروبا الشرقية الذين تشكل القيادة السياسية الحالية في إسرائيل القسم الأكبر منهم، فتلك الفئة من اليهود تنتمي إلى قبائل الخزر التركية، وقد اعتنقوا اليهودية في القرن السابع في عهد ملكهم بولان وأنشأوا لهم مملكة في ما يسمى الآن أوكرانيا السوفياتية حيث استمرت حتى القرن العاشر حين تلاشت بضغط من الروس والبيزنطيين وانتشر سكانها في دول أوروبا الشرقية، وتلك حقيقة تاريخية أخرى3.

ثالثا: بعد انتشار المسيحية في أوروبا اعتنقها بعض اليهود إما عن قناعة وإيمان أو هروبا من الاضطهاد.

رابعا: أما الحقيقة الرابعة ما دامت اليهودية دين ومعتقدات فإنه يمكن من ناحية أن يعتنقها بعض غير اليهود من يقتنع بها في عصرنا الحاضر، كما يمكن أن يتركها بعضهم إلى ديانة أخرى.

هذه الحقائق الثابتة تطرح سؤالين هامين، أولهما: لو ترك يهودي من فلسطين الديانة اليهودية إلى ديانة أخرى، فهل يخرج من نطاق اليهود الذين لهم حق ممارسة السيادة فيها؟ وثانيهما: بمفهوم المخالفة لو اعتنق غير يهودي ( كمسيحي أو بوذي أو مسلم.. الخ) من أي مكان آخر (كأوروبا أو الصين أو الهند) اليهودية، فهل يدخل تلقائيا في نطاق اليهود الذين لهم حق بممارسة السيادة في فلسطين؟

وفقا للفرضية السابقة فإن الإجابة تكون بالإيجاب (أي نعم) طالما أصبح اليهودي في الحالة الأولى غير يهودي، وطالما أصبح غير اليهودي في الحالة الثانية يهوديا، ولكن هذا الجواب مخالف للمنطق والواقع. ومن هنا يتأكد عدم سلامة تلك الفرضية، كأساس لتحديد من لهم حق ممارسة السيادة في فلسطين سواء خلال فترة الانتداب أو بعدها.

في ضوء ذلك يمكن القول بأن وعد بلفور عندما نص على أنه (لا يجوز عمل شيء قد يضر الحقوق المدنية والدينية التي للطوائف غير اليهودية في فلسطين، ولا الحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلاد غيرها) لم يهدف إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين من ناحية، لأن ذلك يضر بمصالح الطوائف الأخرى غير اليهودية. كما فرق بين اليهود كطائفة دينية تعيش إلى جانب الطوائف الأخرى في فلسطين في مجتمع واحد، وبين اليهود الذين ينتمون إلى مجتمعات أخرى في بلاد غير فلسطين، كما وأن الوعد كان قاصرا على الطائفة الأولى دون الثانية التي أوضح صراحة أنه لا يجوز المساس بحقوقها أو مركزها السياسي كجزء من الدول التي يعيشون فيها، ويتمتعون بجنسيتها ويمارسون فيها حقوقهم ونشاطهم السياسي كباقي مواطنيها. فانتماء هذه الفئة إلى تلك البلاد على هذا النحو يعني أنه لم يعد لها صلة بفلسطين من الناحية القانونية والسياسية، حتى ولو كانوا قد تركوها واستقروا في تلك البلاد الجديدة، وهذا التفسير هو الذي يتمشى مع تطور المجتمع الدولي في العصر الحديث بدخوله مرحلة التنظيم الدولي الذي ترتب عليه عدم إمكان الاستناد للحق التاريخي كسبب للادعاء بملكية الإقليم، لأن القول بغير ذلك وترك الباب مفتوحا للادعاء بالحقوق التاريخية يعود بالمجتمع الدولي إلى عصر الفوضى.

فمن ناحية إذا جاز لليهود على اختلاف أجناسهم الادعاء بحقهم التاريخي في فلسطين لأنها كانت مهدا للديانة اليهودية فإنه يجوز لكل مسيحي أن يدعي وبذات القوة والمنطق أنه من فلسطين لأنها مهد الديانة المسيحية، كما ويحق لكل مسلم أن يدعي أنه جزء من الجزيرة العربية لأنها مهد الإسلام، أو من فلسطين لأنها مسرى الرسول عليه السلام.

ومن ناحية ثانية إذا كانت الدولة اليهودية التي يستند إليها الحق التاريخي قد أقيمت لفترة قصيرة، وزالت نهائيا قبل عام 587 قبل الميلاد فإن الحضارة الإسلامية في الأندلس استمرت أربعمائة عام4، لذلك فإنه يحق للعرب والمسلمين بناء على ذلك المنطق التاريخي، المطالبة بالعودة إلى تلك البلاد، كما يحق للهنود الحمر استرجاع أمریکا… وهكذا) وهذا ما لا يقول به أحد في وقتنا الحاضر، وخاصة منذ بداية عصر التنظيم الدولي والنص في عهد عصبة الأمم على احترام السيادة الإقليمية للدول، والذي تأكد في ميثاق الأمم المتحدة.

وثيقة الانتداب وأثرها في تحديد السكان الذين تكمن فيهم السيادة في فلسطين:

في 2 يوليو- تموز سنة 1922 أقر مجلس عصبة الأمم وثيقة الانتداب التي عرفت باسم صك الانتداب على فلسطين، ووضعت موضع التنفيذ في 29 سبتمبر – أيلول 1923، وأهم ما ورد فيها من نصوص ما يلي:

  1. اعترفت الوثيقة في مقدمتها بوجود رابطة تاريخية بين الشعب اليهودي وفلسطين، كما احتوت تلك المقدمة على ذات نصوص وعد بلفور.
  2. قررت المادة الثانية أن الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية واقتصادية تضمن إنشاء وطن قومي يهودي وفقا لما جاء في مقدمة الوثيقة، كما وتكون مسؤولة عن إقامة مؤسسات للحكم الذاتي، وعن المحافظة على الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن الجنس والدين.
  3. قررت المادة السادسة أنه على إدارة فلسطين – مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع جميع فئات الأهالي الأخرى – أن تسهل هجرة اليهود في أحوال ملائمة.
  4. قررت المادة السابعة أن تقوم إدارة فلسطين بوضع قانون للجنسية – يسهل لليهود المقيمين في فلسطين إقامة دائمة اكتساب الجنسية الفلسطينية.

وقد اعتبرت الصهيونية أن نص وثيقة الانتداب على إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، إنما يساوي تماما إنشاء دولة يهودية، حينما يهاجر إليها أعداد كافية من اليهود لتكوين تلك الدولة، فما مدى سلامة هذا التفسير؟

تبين لنا فيما سبق عدم سلامة فكرة وجود رابطة تاريخية بين اليهود في أنحاء العالم وفلسطين، وأن اليهود في الحقيقة ينتمون إلى شعوب مختلفة ولا يشكلون شعبا واحدا تفرق في بلاد مختلفة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تفسير وثيقة الانتداب يجب أن ينسجم مع نصوص ميثاق عصبة الأمم التي صدرت الوثيقة بالاستناد إليها، والتي حددت أن الهدف من الانتداب هو المحافظة على سكان المناطق الخاضعة للانتداب وتطويرهم، وأن هذا الهدف يشكل وديعة مقدسة في ذمة الحضارة، ولذلك نصت المادة الثانية من الوثيقة على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن مؤسسات الحكم الذاتي، وعن المحافظة على الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن الجنس والدين، فالقول بإقامة دولة يهودية في فلسطين يتناقض مع الهدف من الانتداب أولا، ويتناقض مع المساواة بين جميع السكان في فلسطين بصرف النظر عن جنسهم أو دينهم ثانيا، لأنه يعني تخصيص فئة دينية بامتيازات دون غيرها وحرمان فئات دينية أخرى من حقوقهم الطبيعية في تلك المنطقة، وقد رأينا أن المادة السادسة تنص صراحة على ضمان عدم الحاق الضرر بحقوق ووضع جميع فئات الأهالي الأخرى (أي غير اليهود).

لذا فإن إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين لا يعني أكثر مما ورد في المادتين السادسة والسابعة من تسهيل هجرة اليهود في أحوال ملائمة، وفي الحدود التي تضمن عدم الحاق الضرر بحقوق ووضع جميع فئات الأهالي الأخرى، والعمل على أن يسهل قانون الجنسية لمن يقيمون فعلا في فلسطين إقامة دائمة اكتساب الجنسية الفلسطينية بحيث يصبحوا مواطنين فلسطينيين بالتجنس ويكتسبوا بذلك كافة الحقوق المقررة للفلسطينيين بحسب المولد.

وسبب هذا النص في الحقيقة هو سبب عاطفي يرجع إلى ما كان يتعرض له اليهود من اضطهاد بسبب ديانتهم لا بسبب جنسهم، فقررت عصبة الأمم أن تتخلص من هذه المشكلة بالنص في وثيقة الانتداب العمل على مساعدة هؤلاء المضطهدين بتسهيل هجرتهم إلى فلسطين وبعد استقرارهم فيها وإقامتهم إقامة دائمة تسهيل اكتسابهم الجنسية الفلسطينية أي مساواتهم بالمواطنين الفلسطينيين من أبناء الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام، وهذا لا يخرج في حقيقته عما يحدث في وقتنا الحاضر من هجرة بعض اليهود من الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية إلى الولايات المتحدة وحصولهم على الجنسية الأمريكية.

ولكن حتى يحق لليهودي الذي هاجر إلى فلسطين خلال فترة الانتداب الحصول على الجنسية الفلسطينية يجب أن يكون قد دخل إلى البلاد بطريق مشروع، أي وفقا للشروط والأحوال التي كانت تصدرها إدارة الانتداب من وقت لآخر، أما من دخل إلى فلسطين بطريق غير مشروع، فإنه لا يمكن أن يكتسب حقا قانونيا في الحصول على الجنسية الفلسطينية، يؤكد ذلك ما ورد في الكتاب الأبيض الصادر في شهر يونيو – حزيران 1922 حيث حدد فيه المستر تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني في ذلك الوقت السياسة البريطانية في فلسطين حيث أوضح بجلاء:

  1. أن بريطانيا لا تنوي تحويل فلسطين بجملتها إلى وطن قومي يهودي بل أنها ستعمل على أن يؤسس مثل هذا الوطن في فلسطين.
  2. أن اللجنة الصهيونية والوكالة اليهودية لن تشارك في حكم فلسطين.
  3. أن كل سكان فلسطين سيظلون في نظر القانون فلسطينيين.
  4. أن في نية بريطانيا إنشاء حكومة ذاتية في فلسطين.
  5. أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين سوف تستمر في حدود مقدرة البلاد الاقتصادية.

كما أكد الكتاب الأبيض الصادر سنة 1930 هذه السياسة مؤكدا أن تمكين اليهود في فلسطين من زيادة عددهم بالهجرة، لا يمكن أن يكون كبيرا إلى حد يزيد في أي ظرف على مقدرة البلاد الاقتصادية على استيعاب المهاجرين، وأنه من الضروري عدم صيرورة المهاجرين عالة على أهالي فلسطين عموما، وعدم حرمان أية فئة من السكان المحليين من عملها.

ثم أكد أن الوكالة اليهودية لن تشارك في حكم فلسطين وأن كل سكان فلسطين سوف يكونون محل رعاية الإدارة البريطانية، وأن بريطانيا تعتقد أن الوقت قد حان لمنح فلسطين الحكم الذاتي.

لذلك وبصرف النظر عن مدى شرعية الإجراءات التي نصت عليها وثيقة الانتداب على فلسطين والإجراءات التي اتخذتها الدولة المنتدبة لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، فإن الأخذ بالرأي الثاني الذي يقول بأن السيادة في فلسطين قد انتقلت إلى دولة الانتداب سواء من قبل مجلس عصبة الأمم، أو من قبل الحلفاء5، يعني أن السكان الذين تكمن فيهم السيادة في نهاية فترة الانتداب هم السكان الأصليون الذين كانوا في فلسطين منذ تاريخ تنازل تركيا عن حقها في المنطقة وفقا لمعاهدة لوزان 1923، مضافا إليهم المهاجرين اليهود الذين سمحت لهم سلطة الانتداب بالهجرة والذين اكتسبوا الجنسية الفلسطينية بطريق التجنس، ويخرج من ذلك اليهود الذين دخلوا إلى فلسطين بطرق غير شرعية، أي خلسة ودون شهادات هجرة، وهم يشكلون نسبة كبيرة.

——————————

1 يمكن تلخيص أسباب عدم قانونية وعد بلفور في أنه صدر ممن لا يملك السيادة على فلسطين وقت صدوره، حيث كانت حتى ذلك الحين جزءا من الدولة العثمانية ويسكنها شعب عربي، كما أن هذا الوعد يتعارض مع مبدأ حق تقرير المصير الذي أكده الحلفاء – ومنهم بريطانيا – أثناء الحرب – حيث أعلنوا أن الشعوب غير التركية الخاضعة للحكم العثماني سوف يتم تحريرها وإقامة حكومات وإدارات وطنية فيها تستمد سلطتها من السكان الوطنيين، وأنه سوف يحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها (راجع تصريح وعد بلفور سنة 1917 الذي أقره الحلفاء والتصريح البريطاني الفرنسي المشترك الصادر في 7 نوفمبر سنة 1918). كما أن هذا الوعد يتعارض مع ما ورد في ميثاق عصبة الأمم سنة 1919 وخاصة المادة «22» منه التي نصت على أن المستعمرات والأقاليم التي خرجت نتيجة للحرب من سيادة الدول التي كانت تحكمها في الماضي ينبغي أن يطبق عليها المبدأ القائل بأن خير الشعوب وتقدمها «أمانة مقدسة في عنق المدنية، والذي وضع هذه الأقاليم تحت نظام الانتداب بقصد الأخذ بيدها في طريق الحرية والاستقلال.

2 Allen Gerson: Supra Note (9) P. 43.

3 المحامي وليد العسلي: « الديمقراطية السياسية في إسرائيل » هامش ص 13 – مركز الدراسات – نقابة المحامين – القدس سنة 1980.

4 لم تستمر مملكة داود وسليمان سوی 78 عاما وزالت عام 922 قبل الميلاد، كما أن مملكتي يهودا وإسرائيل اللتين ورثتا المملكة الموحدة، كان دورها في تاريخ اليهود محدودة للغاية ولم يكن لأيهما استقلال كامل حتى انصهرت إسرائيل في قلب الامبراطورية الأشورية منذ سنة 722 قبل الميلاد، وسقطت يهودا في يد الفرس في 584 قبل الميلاد.

5 يلاحظ أن محكمة العدل الدولية قد أخدت بالرأي الأول والقاضي بأن السيادة في المناطق الخاضعة للانتداب تكمن في السكان المحليين، ولم تأخذ بالرأي الثاني الوارد هنا، ولكن عرضنا له هنا لنبين أثره على موضوع السيادة على فرض صحته.