الضفة الغربية و قانون الاحتلال الحربي

ثانياً: مبدأ عدم انتقال السيادة:

المبدأ الثاني الذي يترتب على الطبيعة المؤقتة للاحتلال الحربي هو عدم انتقال السيادة على الإقليم المحتل إلى دولة الاحتلال، والواقع أن هذا المبدأ هو من أهم المبادئ المتعلقة بالاحتلال الحربي، والذي يعكس طبيعته القانونية، ويثير مشاكل قانونية وعملية متعددة. فالمادة (42) من لوائح لاهاي تنص في جزئها الأول على أن “الإقليم يعتبر محتلاً عندما يوضع فعلاً تحت سلطة جيش معاد”.

والمادة (43) تنص في جزئها الأول كذلك على أن “سلطة الدولة الشرعية وقد انتقلت في الواقع إلى أيدي المحتل”.

ويظهر من كلا المادتين أن سلطة الاحتلال في الإقليم المحتل هي سلطة فعلية أو واقعية، فمفهوم المخالفة لكلمة في الواقع الواردة في المادة (43) تعني أن السلطة لم تنتقل قانونياً، أما اصطلاح “يوضع فعلاً” الوارد في المادة (42) “فالكلمة الإنجليزية المقابلة لها هي (Actually) والتي تقابل باللاتينية اصطلاح (de Facto) والذي يستعمل للدلالة على التغييرات التي تحصل في الواقع وذلك بالمقابلة مع اصطلاح (de Jure) الذي يستعمل للدلالة على التغييرات التي تحصل قانونيا1.

على أنه يجب الانتباه إلى أن المصطلحات التي استعملت في لوائح لاهاي الخاصة بالاحتلال الحربي كان الغرض منها التأكيد على الصفة الفعلية أو الواقعية لسلطة الاحتلال، لأن استعمال اصطلاحات مثل “الحكومة الشرعية” أو “القانونية” تعني بمفهوم المخالفة أن صفة اللاشرعية واللاقانونية في لصيقة بالاحتلال الحربي، وقد تم بحث هذه النقطة ضمن مبدأ الفعالية (Effectiveness) وتبين أن الاحتلال ليس مجرد ممارسة للقوة بل له سمة قانونية وينتج آثاراً قانونية؛ فصفة الواقعية هنا2، لا تنفي عن الاحتلال الحربي ارتكازه على قوانين الحرب، وبالتالي قانون الاحتلال الحربي الذي تضمنته لوائح لاهاي 1907 وميثاق جنيف عام 1949، فالاحتلال الحربي هو سلطة فعلية أو واقعية لها وضع قانوني خاص بها3، وإذا كان الاحتلال الحربي هو سلطة فعلية أو واقعية فمن يمارس السيادة في المنطقة المحتلة أثناء فترة الاحتلال؟

في البداية ونتيجة للخلط بين الاحتلال الحربي الذي هو حجز مؤقت للملكية والانتصار التام (الفتح) الذي هو تملك تام له، أسس الفقهاء رأيهم على قاعدة القانون الروماني التي تقضي بأن الإقليم ينتقل بالحرب على أساس أنه ليس مملوكاً لأحد res-Nallius وبالتالي يصبح ملكاً لمن يضع يده عليه طوال المدة التي يستطيع أن يحتفظ به، أي أن السيادة على الإقليم المحتل تنتقل إلى دولة الاحتلال، ويحل ذلك محل صاحب السيادة المهزوم ويستطيع التصرف بالإقليم على أساس أنه يملكه ملكية تامة، كما وأن ولاء السكان ينتقل إليه أيضاً على هذا الأساس، وقد توافق مسلك الدول ولغاية منتصف القرن الثامن عشر مع هذا الأساس النظري، ففي خلال حرب السبع سنوات قام فردريك الثاني البروسي في أعوام 1756، 1758، وبعد احتلاله لسكسوني بتجنيد سكانها في جيشه.

وفي خلال حرب الشمال التي استمرت منذ عام 1700 – 1718 قامت الدنمارك وبعد احتلالها لدوقيتا بريمن وفردان السويديتان ببيعهما إلى هانوفر وفي عام 1743 قامت النمسا بملئ الثغرات التي كانت موجودة في صفوف الجيوش الإيطالية التابعة لها بمليشيات بافارية وذلك بعد احتلالها لبافاريا4.

إلا أنه وبعد انتهاء حرب السبع سنوات انتهى هذا العرف5، ونادى بعض الفقهاء بنظرية شبه السيادة quasi – Sovereignty أو الحلول الجزئي في السيادة.

وتقضي هذه النظرية بأن الجيش الغازي وبسبب انتصاره المؤقت في الحرب يصبح مالكاً لجزء من السيادة، أو شبه سيادة على الإقليم المحتل، فمن ناحية فإن الصفة الوطنية للإقليم وسكانه لا يصيبها أي تغيير، ولكن الاحتلال من ناحية أخرى يصبح له حق الطاعة على السكان6. وأساس حق الطاعة هو تواجد القوة لتوفير الحماية، وبذلك فإن الدولة عندما تصبح غير قادرة على حماية مواطنيها تفقد بالتالي حقها في ولائهم وطاعتهم، وبذلك فإنهم قد يعطون ولاءهم مباشرة للجيش الغازي، أو يدخلون معه في اتفاقية يعترفون فيها ضمنياً بسيادته مقبل عدم استعماله الحد الأقصى من الحقوق التي تخولها له الحرب.

ولكن هذه النظرية هجرت تدريجياً لأنها تقوم على افتراضات تفتقر إلى الإثبات وغير متسقة الأجزاء، لأن الافتراض بأن الدولة فقدت حقها في ولاء السكان لا يعطي هذا الحق لأية دولة أخرى، وعكس ذلك يؤدي إلى أن يكون الإقليم المغزو وسكانه عرضة لأن تفرض عليه أية سيادة جديدة، وذلك يؤدي بالنتيجة إلى العودة مجدداً إلى نظرية الإقليم الذي لا مالك له، وينتقل بالحرب إلى من يستطيع وضع يده عليه7.

نتيجة لذلك ظهر اتجاه لإرساء قانون الاحتلال الحربي على أسس قانونية سليمة خاصة بعد أن لفت الفقيه (فاتيل) الانتباه إلى التفرقة بين احتلال الإقليم احتلالاً عسكرياً مؤقتاً وبين ضمه نهائياً في أعقاب الانتصار الكامل، إلا أن النتائج الكاملة لمثل هذه التفرقة التي أوضحها (فاتيل) لم يؤخذ بها إلا بعد حروب نابليون وخلال القرن التاسع عشر8، وأصبح هناك اتفاق بين فقهاء القانون الدولي على أن حكومة الإقليم المحتل الشرعية تحتفظ بالسيادة على هذا الإقليم ولكنها تكون سيادة معلقة طوال فترة الاحتلال، أي أن سلطة الاحتلال لا تكتسب بأي شكل من الأشكال السيادة على الإقليم المحتل، ولكن تكتسب الحق مؤقتاً في إدارة الإقليم، وذلك إلى أن يتم تقرير مصير هذا الإقليم نهائيا9، وهذه الإدارة ليست سوى السلطة العسكرية التي يملكها الاحتلال، لأن الاحتلال ما هو إلا مرحلة من مراحل العمليات العسكرية والتي تستمر فترة زمنية تطول أو تقصر إلى أن يتم تقرير مصير الإقليم، ولا يوجد أي أثر للسيادة في مثل هذه السلطة، كما وأن لها صفة عسكرية تجد لها تعبيراً بالقانون العسكري الذي يخضع له الإقليم المحتل وسكانه بمجرد وقوع الاحتلال10. فحقوق الجيش الغازي ناتجة بصفة مطلقة عن عملياته العسكرية الناجحة التي تفسح له المجال لإقامة سلطة ثابته تعطيه بعض الحقوق على الإقليم لها طابع التأقيت، وتؤدي في ذات الوقت إلى تعليق سيادة صاحب الإقليم الشرعي وتمنعه من ممارسة سلطته11. وتفسير مسألة السيادة بهذا المعنى هو الذي أخذ به المحكم E. Borel، في قضية (Ottoman Debt Arbitration) وذلك عام 1925 حيث عارضت بلغاريا وجهة النظر اليونانية في أنها تعتبر مسؤولة دولياً عن أجزاء الإقاليم التي تنازلت عنها للحلفاء بموجب معاهدة (Neuilly) للسلام المعقودة عام 1919 وذلك حتى تاريخ 9-8-1920 وهو تاريخ سريان المعاهدة بعد التصديق عليها، وطالبت بأن مسؤوليتها عن تلك الأقاليم تنتهي قبل ذلك عندما تم احتلالها حربيا من قبل الحلفاء.

وقد قرر المحكم بأن الاحتلال الحربي لتلك الأقاليم لا يعتبر من الناحية القانونية أداة لنقل السيادة وأن الأقاليم المعنية نقلت عليها السيادة بموجب معاهدة السلام ومن تاريخ سريانها فقط12.

——————————

1Dorris A. Graber: Supra Note (22) P. 47.

2الأصل التاريخي للنظام القانوني الخاص بموضوع الحكومة الواقعية أو الفعلية (de Facto) نشأ خلال الحرب التي استمرت مائة عام والتي نشبت بين دوق لانكستر ودوق يورك في نزاعهما على عرش بريطانيا، ففي خلال هذه الحروب كان أحدهما على رأس السلطة والآخر يحاول إسقاطه إلى أن ينتصر فيقوم المهزوم بحمل السلاح محاولا إسقاط المنتصر وقد استمرت هذه الحال إلى أن قتل ريتشارد الثالث وتزوج هنري الخامس من إحدى نساء العائلة المنازعة له وانتهت بذلك الحرب. وفي خلال هذه الحروب التي استمرت مدة طويلة كان لا بد للحياة أن تستمر وكانت المحاكم تسير على أن جميع من يوجد في منقطة هذا الحاكم يجب عليه إطاعته مهما كانت نتيجة الحرب، وفي عام 1494 صدر تشريع بأن كل من يحمل السلاح مؤيداً للملك الذي يكون في السلطة لا يجوز إدانته بجريمة الخيانة لهذا السبب، ومن هذه البداية ابتدأ النظام القانوني الخاص بموضوع الحكومة الفعلية (de Facto) في التطور.

Everett P. Wheeler: (Governments De Facto) P. 66 American Journal for International Law Vol 5 Part 1 1911.

3George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 322.

4Hall: Supra Note (1) P. 553, 554

L. Oppenheim: Supra Note (13) P. 432.

5تعرض هذا الرأي الفقهي من أساسه للانتقاد فقد تعرض له

Thomas Baty: The relation of invaders to insurgents: Yale Law Journal Vol 35 1926 – 27 P. 966 seq.

وبين أن القول بأن العرف الدولي توافق مع نظرية الحلول الكامل في السيادة لغاية منتصف القرن الثامن عشر هو قول يستند إلى حوادث أسيئ فيها استعمال القوة أكثر من استناده إلى نظرية مستقرة، ولا يوجد مرجع رسمي يمكن الاستناد إليه للقول بوجودها غير القول بأنه “في خلال القرن السابع عشر كان يجبر السكان على نقض الولاء الإقطاعي لصاحب السيادة الشرعي” ومن خلال بحث تاريخي مستفيض حلل فيه جميع الحوادث التي سيقت للتدليل على تطبيق نظرية انتقال السيادة بالاحتلال الحربي في العرف الدولي وبين عدم صحة ذلك.

فبالنسبة لتجنيد فردريك الثاني لسكان سكسونيا بين Baty أن ذلك لم يتم خلال الاحتلال الحربي، لكنه تم بموجب معادة – استسلام ستوبن – فاندماج الجيش السكسوني سنة 1756 مع البروسي لم يكون سوى تطبيق لاحد نصوص هذه المعاهدة، التي نقلت بموجبها سكسونيا وجيشها إلى فردريك الثاني، الذي رأى أن له الحرية في استعمالها كما يريد بما أنها نقلت إليه.

أما قيام النمسا عام 1743 بملئ الثغرات التي كانت موجودة في الجيوش الإيطالية التابعة لها بميلشيات بافرية، فإن ذلك لم يتم إلا بعد أن حصلت النمسا على “الانتصار التام” على بافاريا وطردت حاكمها (Elector) – وهو لقب كان يطلق على الأمير الذي كان يحق له انتخاب الإمبراطور في ألمانيا- وإذا كان من الصحيح أن هذا الحاكم كان يحاول الحصول على مساعدة أجنبية، إلا أن بافاريا كوحدة مستقلة كانت بأكملها في قبضة النمسا. كما كانت سكسونيا في عام 1756 في قبضة بروسيا.

أما أقوى دليل على نقل السيادة خلال الاحتلال الحربي فقد كان بيع الدنمارك خلال حرب الشمال دوقيات برمين وفردان السويديتان – إلى جورج الأول ملك بريطانيا، ولكن هذا ليس أكثر من مشكلة بيع ممتلكات وقضية إرجاعها إلى مالكها الأصلي. ففي 26-6-1715 تنازلت الدنمارك عن هاتين الدوقيتين إلى هانوفر مقابل مبلغ نقدي، وفي 6-9-1715 تم الاتفاق بين انجلترا وروسيا بموجب معاهدة (Greifswald) على أن يتم ضم الدوقيتين إلى هانوفر بمجرد حلول السلام مع السويد، وتم ذلك فعلاً في سنة 1719 حيث ضمت الدوقيتان إلى هانوفر.

ويتبين هنا أن تنازل الدنمارك عن الدوقيتين كان إجراء قابلا للرجوع فيه، زيادة على ذلك فقد قام ملك بريطانيا بدفع جميع ما حصل عليه من دخل من الدوقيتين إلى السويد.

هذا ويفسر (Baty) العرف الدولي في ذلك الوقت والقاضي بنقل السيادة بمجرد الاحتلال الحربي بأن فترة ما قبل صلح (Westphalia) لم تكن الدولة المركزية قد تشكلت بعد، حيث ساد في ذلك الوقت النظام الإقطاعي وكان صاحب الإقطاعية يملك الأرض وما عليها بما في ذلك السكان، وكان من الطبيعي عند حصول غزو أن ينقل الإقطاعي ولائه للغازي الجديد مقابل توفير الحماية له، وبالتالي فقد كان سكان الإقطاعية يتبعونه في هذا الولاء.

– كما ويستشهد ببعض الاتفاقيات التي هي واضحة الدلالة على هذا الاتجاه كمعاهدة (روسكيلد) 1658 بين الدنمارك والسويد، ومعاهدة السلام (Olivia) التي نصت على أن الأحكام التي صدرت والعقود التي أبرمت في المناطق التي احتلت في الحرب الأخيرة من قبل السويد، تعتبر سارية المفعول. ويستنتج (Baty) من هذا النص أنه لو كانت دولة الاحتلال تعتبر صاحبة السيادة على الإقليم المحتل لما كانت هناك حاجة غلى مثل هذا التأكيد.

ويضيف أن النظرية العامة في العلاقات بين الدول ذات السيادة خلال العصور الوسطى كانت تحرم ضم ممتلكات الدول المجاورة إلا بموافقتها.

ومن كل ما تقدم يتبين أن الأدلة على وجود نظرية قانونية بنقل السيادة بمجرد الاحتلال الحربي غير كافية، وإذا كان العرف الدولي كما يقول (Hall) القاضي بنقل السيادة بالاحتلال الحربي انتهى بعد انتهاء حرب السبع سنوات، فالصحيح أن مثل هذا العرف اختفى قبل ذلك بوقت طويل، ولم يستند في أي فترة على أي أساس نظري وإنما كان مجرد إساءة استعمال للقوة التي كانت تتوفر للجيش الغازي.

6Everett Wheeler: Supra Note (60) P. 67.

7Hall: Supra Note (1) P. 557, 558.

اعترض Thomas Baty: Supra Note (63) P. 973 على نقد (Hall) لنظرية شبه السيادة بقوله إن قوة سلطات الاحتلال لها حدود، وهذه الحدود واسعة جداً، وسواء أطلقنا عليها في مجموعها شبه السيادة أو الضرورات العسكرية لقوة الاحتلال فإن ذلك لا يؤدي فعلاً إلى فرق كبير.

8L. Oppenheim: Supra Note (13) P. 432.

9VON Glahn: Supra Note (16) P. 31,

10L. Oppenheim: (The relation between an occupying power and the inhabitants) Law Quarterly Review Vol. 33 1917 P. 364.

11Everett P. Wheeler: Supra Note (60) P. 69.

كما ويشتمل الكتيب العسكري الأمريكي لعام 1924 على النص التالي:

إن الاحتلال باعتباره ناتجاً عن الحرب يعطي فقط القوة الغازية الحق في ممارسة السلطة خلال فترة الاحتلال. ولكنه لا ينقل السيادة بل يعطي فقط السلطة أو إمكانية ممارسة بعض حقوق صاحب السيادة وممارسة هذه الحقوق ناتج عن سلطة الاحتلال الثابتة ومشروعيتها مؤسسة على ضرورة الحفاظ على القانون والنظام الذي هو لا غنى عنه سواء بالنسبة للسكان أو لسلطة الاحتلال.

والاحتلال العسكري يقوم أساساً على الحيازة، وجوهر الاحتلال هو أنه مؤقت وذلك إلى حين حلول السلام أو إفناء الخصم، وعندها فقط يتم نقل السيادة ويعتبر الاحتلال منتهياً من الناحية الفنية.

The American Military Manual: 1914 – Rules of Land Warfare P. 105, 106.

12George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 169.