الضفة الغربية و قانون الاحتلال الحربي

الفصل الثاني

قانون الاحتلال الحربي

كانت قوانين وأعراف الحرب البرية التي قننت في مؤتمرات لاهاي لأعوام 1898 ، 1907 نتيجة لتطور امتد على مدى عدة قرون، وقد أطلق عليها في ديباجة المؤتمرات السابقة “القواعد العامة” لقوانين وأعراف الحرب البرية1.

وكونها عامة يعني أنها تنطبق ليس فقط على الحرب البرية بل على الحرب التي تجري في البحر أو الجو، إلا إذا كان هناك قواعد خاصة تنظم مثل تلك الحروب فتنطبق مثل تلك القواعد2، وهي تمثل نموذجاً حيا لتطور القانون الدولي العرفي حيث إن القواعد التي تضمنتها هذه المواثيق ما هي إلا مجرد تقنين لقواعد عرفية كانت تسير عليها الدول المتحاربة وتلتزم بها، وبالتالي فإن مواثيق لاهاي للأعوام 1898، 1907 هي معاهدات كاشفة عن قواعد قانونية دولية مستقرة، ومن ثم فإن الالتزام بهذه القواعد مفروض على جميع الدول حتى ولو لم تكن موقعة على هذه المعاهدات، ومثل هذا الالتزام يستند مباشرة إلى القواعد الدولية العرفية، وذلك بخلاف المعاهدات التي تتضمن قواعد قانونية لم تكتسب صفة الاستقرار، فمثل هذه المعاهدات تكون منشئة لقواعد قانونية جديدة، وبالتالي فإن الالتزام بها لا يكون مفروضاً إلا على الأطراف الموقعة عليها، وإذا فرض وكانت إحدى الدول، التي هي طرفاً في العلاقة التي توجب تطبيق القاعدة القانونية المعنية، ليست موقعة على مثل هذه المعاهدة فإنه يحق لكل دولة أخرى تكون طرفاً في العلاقة أن تتمسك بعدم انطباق المعاهدة3.

وكون قانون الاحتلال الحربي تضمنه الجزء الثالث من لوائح لاهاي حيث نظمته المواد من 42 – 56 تحت عنوان “في السلطة العسكرية على إقليم الدولة العدوة” فإن قواعد هذا القانون ملزمة لكل أعضاء المجموعة الدولية بغض النظر عن تصديقها أو عدم تصديقها على معاهدة لاهاي، ففي الحرب العالمية الأولى ورغم كون بعض الدول التي اشتركت في الحرب لم تكن موقعة على معاهدة لاهاي 1907 إلا أنها لم تنكر تقيدها بأحكام الجزء الثالث الخاص بالاحتلال الحربي4.

كما وأن محاكم نورمبرغ وطوكيو التي قامت بمحاكمة مجرمي الحرب بعد الحرب العالمية الثانية قد قررت أن لوائح لاهاي الخاصة بالاحتلال الحربي تعتبر كاشفة عن قوانين وأعراف الحرب، أي هي تقنين لقواعد كانت موجودة ومستقرة وملزمة منذ أمد طويل5.

إلا أن تجربة الحرب العالمية الثانية أظهرت وبوضوح عدم ملائمة الجزء الثالث من لوائح لاهاي لعام ۱۹۰۷ لظروف العقد الرابع من القرن العشرين وبالتالي بدت الحاجة ملحة لإعادة النظر في قواعد القانون الدولي المتعلقة بالأقاليم المحتلة فتم عقد مؤتمر جنيف في الفترة الواقعة ما بين ۱۲ نيسان إلى ۱۲ آب من عام 1949، حيث قامت لجنة الصليب الأحمر العالمية بوضع المشاريع المقترحة لأربعة مواثيق أمام المؤتمر6. وتم اعتمادها ودعيت الدول للتوقيع عليها خلال مدة 6 أشهر7.

والاتفاقيات الأربعة تتناول وسائل حماية ضحايا الحرب، وهي تستند أساسا على الاعتبارات الواقعية والعملية وذلك للموازنة بين القسوة والضراوة التي تفرضها متطلبات الحرب، وبين المبادئ الإنسانية8، كما وأن امتداد تطبيقها على المدنيين يمثل تطورا ملحوظا وذلك نظرا لعدم إمكانية التفرقة بين المحاربين وغير المحاربين، حيث إن ويلات الحرب تصيب الجميع9، وقد أثارت الاتفاقية الرابعة أهمية خاصة نظرا لأنها لم تكن مراجعة ولا تنقيحا لأي اتفاقية سابقة ، كما هو الحال في الاتفاقيات الثلاث الأولى، بل تأثرت إلى حد كبير بتجربة الحربين العالميتين؛ وبالتالي فقد ابتعدت إلى حد ما عن الأفكار التي سيطرت على واضعي ميثاق لاهاي لعام ۱۹۰۷، ورغم ذلك فقد نصت المادة «154» على أن هذه الاتفاقية تعتبر ملحقة ومتممة للجزأين الثاني والثالث من لوائح لاهاي، والواقع أنها ليست مناقضة لا لمبادئ ولا لروح اتفاقيات لاهاي، بل وسعت إلى حد ما من نصوص تلك الاتفاقيات حتى تتلاءم مع التطورات الحديثة، وبالتالي فإنها إلى حد ما تعتبر اتفاقية كاشفة عن قواعد قانونية دولية ملزمة، لأنها متفقة ومتسقة مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان المعترف بها والتي تضمنها الإعلان العالمي لتلك الحقوق الذي وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر عام194810.

أما بالنسبة للاتفاقيات الأربعة وعما إذا كانت منشأة أم كاشفة وذلك بالنسبة للقواعد القانونية التي وردت فيها، فإنه يمكن القول بأن القواعد التي لا تعدو أن تكون موضحة لتلك الواردة في لوائح لاهاي، تكون كاشفة، وتلزم بالتالي جميع الدول سواء وقعت وصدقت على الاتفاقيات أم لا، أما تلك القواعد التي تضيف جديدا على ما هو وارد في لوائح لاهاي فإنها تكون قواعد قانونية منشأة وبالتالي لا تلزم إلا الدول التي وقعت وصدقت على تلك الاتفاقيات11.

يتبين مما تقدم، أن اتفاقيات جنيف كانت محاولة لسد الثغرات التي أظهرها التطبيق العملي للوائح لاهاي خلال الحربين العالميتين، أي أن لوائح لاهاي لاتزال هي القانون الأساسي للاحتلال الحربي، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن أساس هذا القانون كان المواد الثمانية التي أعلنها مؤتمر بروكسيل لعام 1874 والمتعلقة « بالسلطة العسكرية على دولة العدو» حيث كررت هذه المواد مع تعديلات بسيطة في الصياغة في لوائح لاهاي، لتبينا أن مرور أكثر من مائة عام على هذه القواعد جعلها في الواقع غير صالحة لأن تحكم سلوك الاحتلال في الأراضي المحتلة في ظل المتغيرات التي طرأت على المجتمع الدولي منذ ذلك الوقت12. فلوائح لاهاي الخاصة بالاحتلال الحربي، صيغت وفقا للظروف الموضوعية التي كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر الذي ساده فلسفة المذهب الفردي، بما يحتويه من مبادئ ونظريات مثل الرأسمالية والديمقراطية، والاقتصاد الحر، ومبدأ قدسية الملكية الفردية، والتفرقة بين المشاريع الاقتصادية الفردية والمشاريع التي تقوم بها الدولة.

وعلى خلفية الحروب التي وقعت قبل وضع ميثاق لاهاي -حيث إن واضعي هذا الميثاق لم يكن بإمكانهم بطبيعة الحال تنظيم أنماط حروب لم تكن معروفة لديهم – فإن نوع الاحتلال الذي تم تنظيمه هو الاحتلال الذي يتم بموجبه اجتياح جيش إحدى الدول الطرف في الحرب لجزء من إقليم العدو وتمكنه من إقامة سلطة ثابتة فيه13.

وقد أفرز الواقع العملي أنواعا أخرى من الاحتلال غير ذلك الذي تصوره واضعوا الميثاق، إلا أن قواعد القانون الدولي التي تعالج المشاكل الناجمة عن الاحتلال لم تتطور بالنسبة لهذه الأنواع، وبالتالي فهي غير مكتملة ولا يوجد اتفاق حولها وتعتمد بصفة رئيسية على قواعد محورة أو على أجزاء فقط مما تضمنه الجزء الثالث من لوائح لاهاي14 وهذه الأنواع المختلفة قد تقع وقت الحرب كما أن هناك أنواعا من الاحتلال يقع وقت السلم15. وحتى بالنسبة لنوع الاحتلال الذي نظمه ميثاق لاهاي، فإن أحكام الجزء الثالث من اللوائح الخاصة بالاحتلال الحربي أصبحت غير ملائمة وفقا لظروف الحرب الحديثة لتنظيم إدارة سلطة الاحتلال16، ويذهب Fellchenfeid إلى أن ميثاق لاهاي:

  1. لا يتضمن نصوصا صريحة لتطوير وحماية الاقتصاد.
  2. النصوص الخاصة بمنع العمل الإجباري والاستغلال الاقتصادي هي عبارات غامضة وعباراتها مختلف عليها.
  3. لا يتضمن الميثاق تنظيما للإنتاج والتوزيع والاستهلاك.
  4. مع أن الميثاق يضفي حماية على الملكية الخاصة، فإنه لا يتضمن أية حماية أو ضمان للحياة الاقتصادية بمجملها في المنطقة المحتلة.
  5. مع وجود قواعد تمنع النهب والاستغلال غير المشروع فإنه لا يوجد أي نص يمنع من تخريب الاقتصاد، وحتى مع التزام سلطة الاحتلال بنصوص الميثاق فإن غموض النص الذي يقضي بأن تحصيل متطلبات سلطة الاحتلال من السكان يجب أن يكون متناسبا مع موارد البلد، يتيح المجال لفرض ضرائب وغرامات تؤدي إلى تخريب الاقتصاد.
  6. الملكية العامة مستثناة من الحماية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الملكية العامة في الدولة الحديثة قد زادت سواء في كميتها أو في دورها في الاقتصاد الوطني، فإن استثناءها من الحماية المفروضة على الملكية الخاصة يؤدي إلى نتائج وخيمة.
  7. أن نصوص الميثاق تتيح المجال السلطة الاحتلال، لاتخاذ إجراءات تزيد كثيرا عما هو منصوص عليه مع بقائها في نطاق نصوص القواعد القانونية، وذلك باستغلال الثغرات الموجودة في القانون، لأنها قواعد عامة وفضفاضة وغير واضحة، ولا يمكن تلافي ذلك إلا إذا تقيدت سلطات الاحتلال ليس فقط بنصوص القانون بل بروحه أيضا.

ويضيف أن إحجام المحاكم عن تحليل الأوضاع والتطورات الحديثة وتأثيرها على نصوص الميثاق زاد من مظاهر القصور وحراجة المركز القانوني لميثاق لاهاي17.

——————————

1George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 15.

2Yoram Dinstein: (The Laws of Land Warfare) Israel Year Book for human rights. Vol. 13 1983 P. 52.

3George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 19.

4Fillchenfeid: Supra Note (7) P. 5.

5George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 164, 165.

6إن اصطلاح « مواثيق جنيف » لعام 1949 يتضمن أربعة مواثيق جميعها تحمل ذات التاريخ، فالأول يتعلق بتحسين ظروف المرضى والجرحى من أفراد القوات المسلحة في ميدان المعركة، والثاني يتعلق بتحسين ظروف المرضى والجرحى من أفراد القوات المسلحة البحرية، والثالث يتعلق بمعاملة أسرى الحرب، أما الرابع فيتعلق بحماية أشخاص الأفراد المدنيين في وقت الحرب .

7 يجب ملاحظة أن التوقيع على الاتفاقية لا يؤدي إلى سريانها والتزام الدول بها في كل الأحوال إلا إذا كانت الاتفاقية غير خاضعة للتصديق عليها، أما إذا كانت المعاهدة واجبة التصديق فان التوقيع عليها، لا يعني أكثر من أن الوفد الممثل للدولة قد وافق على موضوع الاتفاقية، إلا أن وضعها موضع التنفيذ والتزام الدولة بها لا يكون إلا بعد موافقة الجهة المخولة في الدولة وفقا لدستورها عليها، ويسمى هذا الإجراء بالتصديق ( Ratification ) وقد ذهبت محكمة العدل الدولية الدائمة ( The Permanent Court of International Justice ) إلى أن المواثيق لا تعتبر ملزمة إلا بعد التصديق عليها، وذلك فيما عدا بعض الحالات الاستثنائية، معتبرة ذلك كقاعدة من قواعد القانون الدولي.

J.L. Brierly: ( The Law of Nations ) 6th ed. Supra note (11) P. 321 .

8Josef L. Kunz: (The Choatic Status of the Laws of war and the urgent necessity for their revision), American Journal for International Law Vol. 45 1951 P. 59.

9A Genor Krafft: (The Present Position of the Red Cross Geneva Conventions), The Grotius Society Vo. 37 1951 P. 133.

10Joyce A. C. Gutteridge: (The Rights and Obligations of an Occupying Powers) Year book for World Affairs 1952, P.169.

وكذلك Joyce A. C. Gutteridge: (The Geneva Conventions of 1949) B.Y.I.L 1949 P. 318, 319.

11 George Schwarzenberger: Supra Note (2) P. 165, 166.

الواقع أن الاتفاقية الرابعة المتعلقة بمعاملة السكان المدنيين وقت الحرب تجد مصدرها في مشروع الميثاق الذي أعده المؤتمر الخامس عشر للصليب الأحمر المنعقد في طوكيو عام 1934 والمتعلق بكيفية حماية المدنيين التابعين للدولة العدوة سواء الموجودين في إقليم الدولة الطرف في الحرب أو الموجودين في الإقليم الذي تحتله هذه الدولة. إلا أن هذا الميثاق لم يكن أكثر من خطوط عريضة تعرض لإضافات عديدة أصبحت تمثل جوهر ومحتوي هذا المشروع.

12Joyce A.C. Gutteridge: (The Rights and obligations of an occupying Power), Year book for world affairs 1952, P.149.

13Joyce A.C. Gutteridge: (Supra Note (95) P. 149.

14Fellchenfied: Supra Note (7) P. 6.

15 يعدد VON GLAHIN هذه الأنواع فيذهب إلى أن الاحتلال الذي يقع وقت الحرب يضم :

  1. الاحتلال العدائي وهو الذي يقع بعد الانتصار التام وتحطيم الإقليم المحتل بحيث لم تعد تملك قوات مسلحة في ميدان المعركة، مثال ذلك احتلال الحلفاء لألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
  2. الاحتلال الذي يقع على دولة محايدة.
  3. الاحتلال الذي يقع على دولة حليفة، وهذين النوعين من الاحتلال يخضعان لميثاق لاهاي إذا لم تكن هناك معاهدة تنظم مثل ذلك الاحتلال، وهذه الأنواع تقع تحت تبريرات مختلفة مثل الضرورات العسكرية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكون الهدف منه تحرير ذلك الإقليم من يد العدو.

أما الاحتلال الذي يقع وقت السلم فيضم:

  1. احتلال اتفاقي، يؤسس على اتفاقية مع الدولة المعنية ويكون الهدف منه ضمان تنفيذ بنود معاهدة مثلا أو حماية القوات المسلحة أثناء انسحابها من الإقليم المحتل، أو إضفاء الشرعية على إنشاء القواعد العسكرية الأجنبية.
  2. الاحتلال القسري، الذي يكون الهدف منه حماية دولة معينة من الاضطرابات الداخلية أو من هجوم أجنبي.

وهناك نوع من الاحتلال يقع بين الطائفتين وهو الاحتلال الذي يقع بعد اتفاقية الهدنة. بغض النظر عما إذا كان الإقليم المعني قد احتل حديثا أو أنه كان تحت الاحتلال قبل عقد اتفاقية الهدنة وهذا النوع من الاحتلال تنظمه اتفاقية لاهاي، ويعتبر احتلالا حربيا بالمعنى المقصود في الميثاق خاضعا للتعديلات التي تتضمنها اتفاقية الهدنة.

VON GLAHN: Supra Note (16) P. 27

16 Joyce A.C. Gutteridge: (The Rights and obligations of an Occupying Power) Supra Note (95) P. 151

17 Fellchenfieed: Supra Note (7) P. 12, 13, 14, 26 .