محاضرات في ارتباط الدعاوى وأثره على وحدة الخصومة المدنية

المطلب الثالث

تأثير الارتباط على الاختصاص القيمي

يقصد بالاختصاص القيمي؛ توزيع الاختصاص بالدعاوى حسب قيمة النزاع. فالمشرع يعتد بقيمة الدعوى عند توزيع الاختصاص على محاكم الصلح ومحاكم البداية. فمحاكم الصلح تختص بالفصل في الدعاوى قليلة القيمة؛ وهي وفق نص المادة 39/1 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية؛ الدعاوى التي لا تتجاوز قيمتها عشرة آلاف دينار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونا. ويكون حكمها قطعيا في الدعاوى المتعلقة بمبلغ نقدي أو مال منقول؛ إذا كانت قيمة المدعى به لا تتجاوز ألف دينار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونا.

ولا يثير تقدير قيمة الدعوى صعوبات في الدعاوى البسيطة؛ التي لا تشتمل إلا على طلب واحد؛ مقدم من خصم في مواجهة خصم واحد. ولكن تظهر المشاكل في الدعاوى التي تتعدد فيها الطلبات؛ والخصوم، ويظهر تأثير الارتباط في تلك الدعاوى؛ لأنه قد يكشف عن وجود أساس قانوني واحد بين مختلف الطلبات، مما يقتضي تقدير القيمة الإجمالية للطلبات المتعددة. أما إذا استند كل طلب على سبب مختلف؛ أو بمعنى آخر انتفى الارتباط بين الطلبات المتعددة؛ كان التقدير باعتبار كل طلب على حدة.

الفرع الأول
تقدير قيمة الدعوى في حالة تعدد الطلبات

يعتد كل من المشرع الفرنسي في قانون المرافعات الصادر عام 1975 والمشرع الفلسطيني في المادة 37 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 سنة 2001 ، بمعيار وحدة السبب لتقدير قيمة الدعوى عند تعدد الطلبات، فإذا كانت الطلبات ناشئة عن سبب قانوني واحد؛ كان التقدير باعتبار قيمتها جملة، أما إذا كانت ناشئة عن أسباب قانونية مختلفة؛ كان التقدير باعتبار قيمة كل طلب على حدة.

ولكن الفرق بين المشرعين أن المشرع الفرنسي يعتد بالارتباط كمبرر لجمع قيمة الطلبات المتعددة، حيث اشترط لجمع قيمة الادعاءات المتعددة أن تكون ناشئة عن سبب واحد أو مرتبطة. فإذا كانت الطلبات المتعددة مرتبطة يعتد بالقيمة الإجمالية لهذه الطلبات؛ ولو لم تكن ناشئة عن سبب واحد، بينما المشرع الفلسطيني لا يأخذ بالارتباط كمبرر لجمع قيمة الطلبات المتعددة، فإذا لم تكن هذه الطلبات ناشئة عن سبب واحد ؛ كان التقدير حسب قيمة كل طلب على حدة ولو كان هناك ارتباط بين هذه الطلبات المتعددة. علما بأن وحدة السبب قد تكشف عن وجود ارتباط؛ لأن وحدة السبب أحد مصادر الارتباط.

والسبب هو الواقعة التي يستمد منها المدعي حقه في الادعاء؛ أو هو الأساس القانوني الذي تستند عليه الدعوى، أي منشأ الالتزام؛ سواء كان عقدا؛ أم إرادة منفردة؛ أم فعلا ضارا (عملا غير مشروع)؛ أم فعلا نافعا ( إثراء بلا سبب) ؛ أم نصا في القانون.

ومثال اتحاد السبب: اشترى شخص سيارة من آخر؛ وحرر للبائع بالثمن سندات متعددة؛ ككمبيالات مثلا، تقدر قيمة الدعوى بمجموع المبالغ المطلوبة؛ لأن السبب واحد وهو عقد البيع. وطلب العامل الأجرة وبدل الإشعار ومكافأة نهاية الخدمة والتعويض عن الفصل التعسفي، جميعها طلبات ناشئة عن سبب قانوني واحد وهو عقد العمل.

أما مثال اختلاف السبب، طلب المؤجر من المستأجر سداد الأجرة المتأخرة، ودفع مقابل انتفاعه بالعين بعد انتهاء عقد الإيجار. الطلب الأول سببه عقد الإيجار ، والطلب الثاني سببه الإثراء بلا سبب.

وتعد الأسباب مختلفة ولو تماثلت في النوع، فإذا عمل شخص لدى آخر بمقتضى عقد عمل، ثم أبرم عقد عمل آخر لدى نفس صاحب العمل لفترة عمل أخرى، ثم ثار نزاع بينهما، وطالب العامل صاحب العمل بالأجرة المستحقة له عن الفترتين، وفق القانون الفلسطيني لا تقدر الدعوى بقيمة الطلبين معا؛ وإنما تقدر قيمة كل طلب على حدة لاختلاف السبب. وكذلك إذا طالب محام موكله بأتعابه عن عدة قضايا باشرها بمقتضى توكيلات متعددة، قدرت قيمة كل طلب على حدة.

الفرع الثاني
تقدير قيمة الدعوى عند تعدد الطلبات وتعدد الخصوم

يختلف مسلك القانون الفرنسي عن مسلك القانون الفلسطيني بالنسبة لهذه المسألة:

فقد أخذ المشرع الفرنسي بقيمة أكبر الطلبات المتعددة بشرط اشتراك تلك الطلبات المتعددة في سند الدعوى ( المادة 36 مرافعات)؛ ولكن المشرع لم يحدد المقصود بالسند المشترك، إلا أن الفقه والقضاء متفقان على أن المشرع يهدف من وراء إيراد هذا المصطلح التيسير على الخصوم. ويرى بعض الفقه أنه يجب أن يفهم السند المشترك بمعنى أكثر اتساعا من فكرة السبب القانوني المولد للحق.

بينما أخذ المشرع الفلسطيني بمعيار وحدة السبب أو تعدده فنص في المادة 37/2 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أنه ( إذا كانت الدعوى مقامة من واحد أو أكثر على واحد أو أكثر بمقتضى سبب قانوني واحد، كان التقدير باعتبار قيمة المدعى به دون التفات إلى نصيب كل منهم).

ويشترط للاعتداد بمجموع قيمة الطلبات المتعددة وفقا لهذه المادة توفر ثلاثة شروط هي:

  1. أن يكون هناك تعدد في الخصوم، بأن تقام الدعوى من خصم في مواجهة أكثر من خصم؛ أو أن تقام الدعوى من أكثر من خصم على خصم واحد؛ أو أن تقام الدعوى من أكثر من خصم في مواجهة أكثر من خصم.
  2. تعدد الطلبات في الدعوى بصرف النظر عن طبيعة الالتزام، بسيطا أو قابلا للتجزئة، تضامنيا أو غير قابل للتجزئة.
  3. أن تكون الطلبات المتعددة ناشئة عن سبب قانوني واحد (1) ، أما إذا اختلفت الأسباب في الطلبات المتعددة؛ ولو تماثلت في النوع، فالعبرة تكون بقيمة كل طلب على حدة؛ ولو وردت الطلبات المتعددة في لائحة دعوى واحدة.
الفرع الثالث
دور الارتباط في توزيع الاختصاص القيمي

يثير تقديم طلب عارض في الدعوى التساؤل عن الأثر الذي يحدثه طرح هذا الطلب على اختصاص محكمة الطلب الأصلي، فهل يعتد بقيمة هذا الطلب العارض؛ وإعادة توزيع الاختصاص بحسب ما يتضمنه من قيمة؟ أم لا يعتد بقيمته ويبقى الاختصاص منعقدا للمحكمة بالدعوى ابتداء؟

أجاب المشرع الفلسطيني على هذا التساؤل، ونص في المادة 31 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أن العبرة في تقدير قيمة الدعوى لتحديد الاختصاص يكون على أساس آخر طلبات الخصوم ؛ أي بالطلبات الختامية، على أساس أن الطلبات الأخيرة هي التي تعبر عن القيمة الحقيقية للدعوى، على شرط أن يتعلق الأمر بتعديل الطلب الأصلي؛ وليس بطلب جديد يزيل الطلب الأصلي.

لذلك إذا أغفل المدعي في مرافعته الختامية التي حدد فيها طلباته تحديدا جامعا – لبعض الطلبات التي كان قد أوردها في لائحة الدعوى؛ فإن فصل المحكمة في هذه الطلبات الأخيرة يكون قضاء بما لم يطلبه الخصوم.

وعلى ذلك فإن قيمة الدعوى لا تتحدد بما ورد في لائحة الدعوى؛ وإنما من خلال الطلبات التي يتقدم بها الخصوم أثناء سير الدعوى؛ حتى إقفال باب المرافعة، ولا يهم أن يشتمل الطلب العارض على قيمة أعلى أو أقل من الطلب الأصلي؛ إنما يشترط أن يكون ذلك التعديل في النطاق المسموح به قانونا.

وسنتناول تأثير الطلبات العارضة على الاختصاص القيمي لكل من محكمة الصلح؛ ومحكمة البداية.

  1. أثر الطلبات العارضة على الاختصاص القيمي لمحكمة الصلح

حظر المشرع الفلسطيني في المادة 40/1 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية ، على محكمة الصلح الفصل في الطلب العارض أو الطلب المرتبط بالطلب الأصلي؛ إذا كان بحسب قيمته لا يدخل في اختصاصها.وإذا قدم لها طلب عارض من هذا القبيل؛ فللمحكمة أن تفصل في الطلب الأصلي وحده وتحيل الطلب العارض إلى المحكمة المختصة به إذا رأت أنه لا يترتب على ذلك ضرر بسير العدالة. أما إذا رأت أن هناك ضررا جسيما سيترتب على الفصل بين الطلبين بسبب الارتباط؛ فإنها تحيل الطلبين معا إلى محكمة البداية المختصة بالطلب العارض.(1)

ولكن هل تلتزم محكمة الصلح بالحكم بالإحالة إذا جاوزت قيمة الطلب العارض وحده اختصاصها، أم جاوزت قيمة الطلب الأصلي مع قيمة الطلب العارض نصاب اختصاصها؟

فإذا قدم المدعي طلبا أصليا قيمته سبعة آلاف دينار، ثم تقدم بطلب إضافي قيمته أربعة آلاف دينار، هل تختص المحكمة بالفصل في الطلبين على أساس أن قيمة كل طلب لا تزيد عن نصاب اختصاصها؟ أم تحكم بالإحالة لأن قيمة الطلبين معا تزيد عن نصاب اختصاصها؟

لم يورد المشرع الفلسطيني نصا مباشرا بالنسبة لمحكمة الصلح، ولكنه أشار لهذه المسألة في المادة 37 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية، وعلى ذلك إذا كان الطلب الأصلي والطلب العارض ناشئين عن سبب قانوني واحد ؛ كان التقدير باعتبار قيمة الطلبين معا؛ فإذا زاد مجموع قيمة الطلبين على عشرة آلاف دينار تلتزم المحكمة بالإحالة. أما إذا اختلف السبب القانوني للطلب العارض عن السبب القانوني للطلب الأصلي؛ كان التقدير باعتبار قيمة كل طلب على حدة؛ وتختص محكمة الصلح بالحكم في الطلبين ولو كان مجموعهما يزيد عن نصاب اختصاصها.

  1. اثر الطلبات العارضة على الاختصاص القيمي لمحكمة البداية

تختص محكمة البداية بالحكم في سائر الطلبات العارضة أو المرتبطة بالطلب الأصلي؛ مهما تكن قيمته؛ ولو كانت غير مختصة بها إذا قدمت إليها تلك الطلبات كطلبات أصلية. فللارتباط أثر إيجابي على اختصاص محكمة البداية، فهو يمد اختصاصها القيمي على حساب محاكم الصلح.

ولكن السؤال يثور بالنسبة للطلب الإضافي الذي يقدمه المدعي؛ متضمنا تعديلا لقيمة الدعوى بالنزول بها إلى ما هو أقل من اختصاص محكمة البداية، كما لو كانت قيمة الطلب الأصلي (12000) دينار؛ وعدلت هذه القيمة إلى (9000) دينار فقط.

وللإجابة على هذا السؤال، نجد أن المشرع بالنسبة للاختصاص القيمي قد نص في المادة 31 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أن تقدير قيمة الدعوى يكون على أساس آخر طلبات الخصوم، وعلى ذلك إذا كان الطلب المتضمن تعديل قيمة الدعوى يخرج عن اختصاص محكمة البداية؛ يجب عليها أن تحكم بعدم الاختصاص والإحالة إلى محكمة الصلح المختصة، قياسا على التزامها بالإحالة إذا أصبحت الدعوى من اختصاص محكمة الصلح وفقا لقانون جديد معدل لنصاب الاختصاص، وتحكم المحكمة بذلك من تلقاء نفسها لأن الاختصاص القيمي من النظام العام.

(1)(1) السبب في المسئولية التقصيرية هو الفعل الضار وحده، أما الضرر فلا يعد عنصرا في السبب؛ وإنما يعد عنصرا من عناصر تقدير التعويض المستحق لكل مدع، فعلى المحكمة أن تحكم لكل مضرور بما يستحقه من تعويض يتناسب مع قدر الضرر الذي أصابه.

(1)(1) اختلف موقف المشرع الفلسطيني عن موقف المشرع الفرنسي بالنسبة لحرية محكمة الصلح في الإحالة، فبينما قيّد المشرع الفرنسي من حرية المحكمة باشتراط أن يكون هناك دفع بعدم الاختصاص مثار من الخصم الذي تقدم بالطلب العارض؛ فلا يكون للمحكمة أن تحكم من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص بسبب قيمة الدعوى، أوجب المشرع الفلسطيني على المحكمة أن تحكم من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص بسبب قيمة الدعوى؛ وبإحالة الدعوى الأصلية والطلب العارض أو المرتبط إلى محكمة البداية ؛ إذا تبين لها أن الفصل بين الطلبين يمكن أن يضر بسير العدالة، لأنه سيؤدي إلى الإخلال بحقوق الدفاع أو إعاقة عملية الإثبات.